أهل بيت رسول الله هم صنو القرآن الكريم، وهم القرآن الناطق، فمن أبرز مهام الأئمة المعصومين، تذكير الناس بمحورية القرآن في الوصول الى حقائق الدين والحياة، وهذا يكون عن طريقهم هم لا سواهم، ففي رواية عن الإمام الباقر: "شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت"...

"عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد".

الإمام الباقر، عليه السلام

بينما كنت أتصفح سيرة الإمام الباقر، عليه السلام، لتجميع بعض الخيوط المفيدة لنسج صورة تعبر عن جانب من حياته الشريفة في ذكرى استشهاده، لفت نظري تسمية أطلقها أهل الحجاز (مكة والمدينة) على الإمام الباقر وهي؛ "إمام أهل العراق"، في حين أمضى معظم حياته في مدينة جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، ولم يتواجد كثيراً في العراق وحواضرها مثل؛ الكوفة او البصرة؟ ثم لماذا لم يتخذه أهل المدينة إماماً لهم، وهو مجاورهم كأسرة نبوية منذ حياة النبي الأكرم؟ 

قبل الخوض في جغرافيا المجتمعات المسلمة في ذلك العهد، والتفاوت الواضح في مستويات الوعي والثقافة بين من يسكن الكوفة والبصرة، أو من يسكن الحجاز، أو من يسكن الشام، وسائر الامصار الاسلامية، جدير بنا الاشارة الى المرحلة الانتقالية في البناء الثقافي بين عهد الامام علي بن الحسين زين العابدين، وعهد ابنه؛ محمد بن علي الباقر، عليهما السلام، ففي العهد الاول كانت الأمة بحاجة ماسّة الى عملية تهذيب للنفوس، وتليين للقلوب من خلال برنامج تربوي متكامل قدمه الامام زين العابدين للأمة متخذاً الدعاء أحد أبرز العلاجات الناجعة لمرض قسوة القلب، ايضاً؛ معالجة عقدة الاحتقار والضعة التي ولدت صفات القلق والجُبن والازدواجية التي تسببت في خذلان الإمام الحسين؛ سبط رسول الله، وتعرضه مع أهل بيته لتلك الفاجعة المدوية أبداً في التاريخ. 

وفي عهد الامام الباقر كانت الأمة على موعد مع توافد الافكار والعقائد من خارج المنظومة الاسلامية، وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن تعمّد الحكام الأمويين منذ شيخهم الكبير؛ معاوية، تشجيع المشككين والمرتابين بالدين وبأصوله وأركانه، وحتى بالقرآن الكريم، فكانت بذرة "القدرية" و"المرجئة" واشباهها، فكان الإمام الباقر على أهبة الاستعداد لهذا الدور الحضاري الذي بشره به جدّه المصطفى بأنه "يبقر العلم بقرا"، ويكون النموذج المتكامل للعلم والمعرفة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تتميز عن كل ما موجود في العالم آنذاك.

القرآن الكريم.. المحور

أهل بيت رسول الله هم صنو القرآن الكريم، وهم القرآن الناطق، فمن أبرز مهام الأئمة المعصومين، عليهم السلام، تذكير الناس بمحورية القرآن الكريم في الوصول الى حقائق الدين والحياة، وهذا يكون عن طريقهم هم لا سواهم، ففي رواية عن الإمام الباقر يخاطب أصحابه: "شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت".

ومنذ ذلك الحين برزت شريحة المفسرين في الأمة بدعم ومساندة من الحكام ليعضدوا سياساتهم وشرعية وجودهم في السلطة بآيات من الذكر الحكيم، وهو ما نفاه بشدة الإمام الباقر قائلاً لقتادة، أحد المدعين لتفسير القرآن آنذاك من البصرة: "ويحك ياقتادة! إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت، فنحن والله دعوة إبراهيم، عليه السلام، التي من هوانا قلبه، قُبلت حجته وإلا فلا، يا قتادة! فإن كان كذلك أمن من عذاب جهنم يوم القيامة، ياقتادة! إنما يُعرف القرآن من خوطب به".

فكان، عليه السلام، حريصاً على أن يجعل كلام الله –تعالى- القاعدة الأساس لعقيدة وأفكار الناس، لتأتي الإضاءات والتوضيحات منه، عليه السلام، ومن سائر الأئمة المعصومين، 

ففي رواية عنه، عليه السلام، "اذا حدثتكم بشيء فسلوني عن كتاب الله –تعالى- ثم قال: إن الله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقالوا –أصحابه- يا ابن رسول الله، وأين هذا من كتاب الله؟ فقال: إن الله –عزوجلّ- يقول كتابه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، وجاء في الآية الكريمة: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}، أما عن كثرة السؤال، تقول الآية الكريمة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.

أنت أموي منّا أهل البيت!

بداية؛ يجدر بنا الإشارة الى أن عهد الامام الباقر كانت المدرسة الأولى لنشأة العلماء المحدثين، والأصحاب المخلصين في قادم الأيام للإمام الصادق، عليه السلام، مثل محمد بن مسلم، و زرارة بن أعين، وجابر بن يزيد الجعفي، وأبو بصير الأسدي وآخرين، فكانت تلك الفترة قاعدة الانطلاق مع المعايير الصحيحة التي وضعها الامام الباقر للأصحاب الخلّص.

فجاءه ذات مرة سعد بن عبد الملك، وهو من أبناء عبد العزيز بن مروان الأموي، ولكن الإمام كان يسميه "سعد الخير" تكريماً لإيمانه الصادق، وولائه العميق، فدخل على الإمام باكياً، فسأله الامام عن سبب بكائه، فقال: وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال له، عليه السلام: لست منهم، أنت أموي منّا أهل البيت، أما سمعت قول الله –عزوجل- يحكي عن إبراهيم، عليه السلام: { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}.

ومن المعايير الدقيقة للولاء تجنب الوصولية والتزلف للظالمين بجعلهم في منزلة الأولياء الصالحين، فقال، عليه السلام، لكُثير، وهو من الشعراء البارزين: "أمتدحت عبد الملك"؟! فقال: ما قلت له: يا إمام الهدى، إنما قلت: يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحية دويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر اصمّ، قال الراوي: فتبسّم الإمام.

ومن الشعراء المؤمنين والمقربين للإمام الباقر، عليه السلام؛ الكميت الأسدي، الشاعر المصقع، ومن اللامعين في تاريخ الشعر العربي، ومن شعره في حق الإمام الباقر: 

من لقلبٍ متيّمٍ مستهام

غير ما صبوةٍ ولا أحلامِ

فتوجه الإمام الى الكعبة المشرفة ودعا عندها للكميت: "اللهم ارحم الكميت واغفر له" ثلاث مرات، ثم قدم اليه هدية مالية قدرها مائة ألف درهم، فأبى أن يأخذها برجاء ان يثيبه الله –تعالى- عليها يوم القيامة، فطلب منه قميصه فأعطاه الإمام إياه.

وعن البيئة الاجتماعية التي تلد الرجال المؤمنين والصادقين الأوفياء نعيد الإشارة الى ما استهللنا به المقال، بوصف الإمام الباقر بأنه "إمام أهل العراق"، ولم يكن إمام أهل المدينة، مثلاً؛ وهي مدينة جدّه المصطفى، وقد أمضى فيها معظم أيام حياته، إنما المشكلة في هذه الحاضنة الاجتماعية غير السويّة وغير المتفاعلة مع المسيرة الرسالية للأئمة المعصومين بشكل عام منذ أحداث السقيفة وما جرى على أمير المؤمنين، والصديقة الزهراء، ومروراً بما جرى على الامام الحسين في كربلاء، وما جرى بعده من تبرّم أهل المدينة من استمرار بكاء ونحيب السيدة زينب على مصاب الإمام الحسين، وسائر أهل بيتها. 

يكفي أن نقرأ رواية عن أبو بصير عن الامام الصادق، عليه السلام: "كان أبي في مجلس له ذات يوم، إذ اطرق رأسه الى الأرض، فمكث فيها مكثاً، ثم رفع رأسه فقال: ياقوم! كيف أنتم إن جاءكم رجلٌ يدخل عليكم مدينتكم هذه في أربعة آلاف، حتى يستعرضكم بالسيف ثلاثة أيام، فيقتل مقاتلتكم، وتلقون منه بلاءً لا تقدرون أن تدفعوها، وذلك من قابل، فخذوا حذركم، وأعلموا أن الذي قلت هو كائن لابد منه". فأنكروا عليه القول ولم يصدقوه، فلم تمض فترة طويلة حتى أغار عليهم نافع بن الأزرق حتى كبس المدينة –يقول الراوي- فقتل مقاتلهم، وفضح نساءهم، فقال أهل المدينة: لا نرد على أبي جعفر شيئاً نسمعه منه أبداً. 

بينما في الكوفة نجد عالماً متبحراً وفقيهاً لامعاً من ابرز المقربين الى الامام الباقر، وهو جابر بن يزيد الجعفي، تصله رسالة سرية خاصة منه، عليه السلام، تشير عليه أن يُظهر الجنون ليتفادى بطش الوالي الأموي، فما كان منه إلا الامتثال لأمر الإمام، و روي أن هشام بن عبد الملك أرسل الى واليه في الكوفة أن اقبض على جابر الجعفي واضرب عنقه، فلما سمع الوالي بخبر جابر انصرف عن تنفيذ الحكم، وبذلك ينقذ الإمام الباقر أبرز العلماء والفقهاء ولا يدع الأمة تخسرهم.

هكذا دور حضاري ومحوري في الأمة لا يتحمله حاكم منغمس في الملذات مثل؛ هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، فارتكب جريمته بدسّ السمّ الى الإمام الباقر لإطفاء شمعته المضيئة ولكن {يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

وقبل الختام، نورد هذه الرواية التي جاءت في كتاب من حياة الامام الباقر، لسماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي، أن الامام جعل مبلغاً من المال حتى يُقام له العزاء في كل سنة، "وهذا يدل على استحباب إقامة العزاء على المعصومين، عليهم السلام"، وجاء في الكافي، عن أبي عبد الله الصادق، عليه السلام: "يا جعفر، أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمِنى أيام مِنى"، وهي إشارة الى إقامة العزاء وبيان الظلامة في موسم الحج لوجود جمهور المسلمين.

اضف تعليق