الحياة مع الدين ولا تكون إلا بالدين، فالإنسان الذي لا دين له لا حياة له، لأنه لا يمتلك الاستقرار ولا الاطمئنان، وهذا الشيء يؤدي بدوره إلى قلق وهي سموم تؤدي الى موت الإنسان، عندما يكون يقين الإنسان متزلزلا، أو لا يقين له، فيسيطر عليه الشك والقلق
(مفارقة الدين مفارقة الأمن، ولا تهنأ حياة مع مخافة)
أسعد الله أيامكم بمولد الإمام الحجة المنتظَر، المنقذ المصلح العظيم، الذي ينشر العدل في الأرض بعد أن ملِئت ظلما وجورا، الذي ينشر السلام والمحبة والازدهار.
ان أصعب امتحان يمر به الإنسان في عصر الغيبة هو الثبات على الدين، والتمسك بولاية أهل البيت (عليهم السلام)، واتباع نهج الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
فالمغريات كثيرة، والمخاطر جليلة، وهناك الكثير من الانهيارات والاستسلامات التي تحصل عند الإنسان عندما يتسلل الشك إلى قلبه وافكاره، وهو أصعب امتحان حيث تتزلزل المبادئ عند بعض الناس، وتصبح هلامية، سائلة، غير ثابتة، بسبب المغريات والشهوات، والبحث عن المكاسب المادية السريعة.
الانهيار في مواجهة الثقافات الغالبة
وبعض الناس عندما يواجهون تلك الصعوبات والتحديات ينهارون نفسيا، تجاه الثقافات الغالبة، هذا الانهزام النفسي يعبّر عن ضعف التمسك بالدين وهشاشة البناء الديني لهذا الإنسان أو ذلك المجتمع.
بعض الناس يعاني من ضعف المبادئ وتسلل الشك الى نفسه، وترسيخ الاوهام في ذهنه، بالنتيجة يضيِّع هذا الإنسان العناصر الأخلاقية التي تضبطه ويتجه نحو ارتكاب الحرام، ولا يتورع عن الاتيان بالمعاصي، وبالتالي يتنازل عن دينه وعن شريعته ويدخل في عالم الضلال والرذيلة.
لذلك نحن نحتاج أن نتمسك بالدين للحفاظ على أنفسنا، والحفاظ على عقيدتنا، والثبات على هذا الدين، والاستمرار على نهج الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد، 7. وأيضا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأنفال 45.
فالنجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة يتم عبر الالتزام بالمبادئ والتمسك بالدين، والذي لا يتمسك بمبادئه وبدينه لا يفهم واقع الحياة، ولا يوجد شيء يهتم به، ولا يستمسك بالعروة الوثقى، فيكون ضالا ضائعا في هذا العالم، يعيش القلق والشك والريبة وعدم الاستقرار وعدم الاطمئنان.
لذلك يحتاج الإنسان إلى أن يستغفر الله كثيرا، ليثبت على الدين، وعلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، حتى ينجح ويفلح في الدنيا والآخرة.
(فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) القصص 67.
وذكرنا في المقال السابق أن هناك مجموعة عناصر يحتاجها الإنسان لكي يستطيع أن يثبت على دينه في زمن الغيبة، وتكون أقدامه راسخة غير متزلزلة، منها:
اولا: التقوى
فالتقوى تعطي الإنسان الحصانة والوقاية والقوة للوقوف في مواجهة المشكلات والمحرمات والتحديات، فيحصن الإنسان نفسه ويستعصم بالتقوى من أجل الثبات والتمسك بالدين.
ثانيا: الصبر
إن الصبر يجعل الإنسان متحمّلا للمشكلات وقادرا على أن يحقق النتائج الطيبة، فبالصبر يحصل الظفر والانتصار، وأكبر انتصار أن يكون الإنسان ثابتا على دينه، متمسكا به وغير متزلزل.
ثالثا: التمسك بالدين
التمسك بالدين يؤدي إلى الثبات، فالبعض عندما يواجهون جانبا من المشكلات والتحديات أمامهم، تراهم يشعرون بالضعف في ايمانهم والانهزام النفسي، فيتنازلون عن قناعاتهم الدينية، وهذا هو معنى (ويثبت أقدامكم) بمعنى يكون الإنسان راسخا في كل المواقف.
فإن الذي يتخلى عن دينه يبدأ بالتدريج، من تخلٍّ صغير إلى آخر صغير، حتى يصبح هذا التخلي كبيرا، فيسقط الإنسان ويخرج من حالة الثبات على الطريق المستقيم.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ...أيها الناس، دينكم دينكم، تمسكوا به، لا يزيلكم أحد عنه، لان السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، لان السيئة فيه تغفر، والحسنة في غيره لا تقبل).(1)
هذه الرواية تعبر عن اهمية الإطار المبدئي الذي لابد للإنسان أن يعيش به، حيث لا يمكن لأي إنسان أن يعيش خارج إطار، وخصوصا الإطار الديني، فالإطار الديني يحميه ويحصنه ويجعل له جدارا يحيطه ومنهجا ثابتا يقوده نحو الاستقرار، فمهما كانت أخلاق الإنسان خارج الإطار الديني، ومهما كانت قيمه ومبادئه فكلها ليس لها قيمة، لأن الدين هو أساس العقل والأخلاق والقيم الصالحة، فالدين يقود الى الفطرة.
فالدين هو الذي يعطي المنهج الصحيح للإنسان، ذلك المنهج الذي يتناسب مع فطرته وعقله ونفسه وروحه، ويجعله متصلا مع الله سبحانه وتعالى، فكل مبدأ صحيح سالم هو المبدأ الذي يكون مرتبطا ومنسجما مع شريعة الله سبحانه وتعالى وقوانينه الله سبحانه وتعالى، والأسس والمقاصد التي وُضعت في اطار الغايات.
لذلك فإن الإنسان في الإطار الديني، إذا أخطا يستطيع أن يستغفر، حتى لو ارتكب سيئة، ولكن الإنسان خارج الإطار الديني حتى لو فعل حسنة تكون غير مقبولة، ولا جدوى فيها، ولا مضمون واضح، بل طريق مغلق وعدمية مظلمة، لأنها ليست ضمن منهج أو هدف، أو غاية، فكل شيء في الحياة يحتاج إلى غاية، خصوصا الغاية الوجودية الأبدية.
والغاية موجودة في الدين القويم وغير موجودة في سواه، لذلك فإن الذين يكتبون ويقولون ويتحركون ويعملون خارج إطار الدين، تصبح أعمالهم وأفعالهم عبث غير مقبول وغير نافع، ولا تكون هذه الأعمال في إطار مثمر من حيث النهايات، ولا تؤدي إلى نفع الناس، بينما كل شيء نافع فهو في إطار الدين، وكل شيء في غير إطار الدين فهو مضرّ ومفسد.
الذين ساروا على نهج عليّ (ع) ربحوا
ويؤكد الإمام علي (عليه السلام)، على ذلك لانه كان يواجه تلك الموجة من تخلي الناس عن الدين، وانسياقهم وراء الماديات، واللهاث وراء مصالحهم الخاصة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بحثا عن مصالحهم المادية بنظرهم القصير، ولذلك خسروا، بينما نجد أن الذين ساروا على نهج الإمام علي (عليه السلام)، ربحوا لأنه في إطار الدين، ومن يكون في إطار الدين يكون ثابت القدم، والذي يكون ثابت القدم فهو ناجح في الدنيا ومفلح في الآخرة.
(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، آل عمران 147. هذه الآية تثبت إن الإنسان يستطيع أن يصلح نفسه، أن يعيد تراكمها وبناءها تكامليا من خلال وجوده في الإطار الديني.
أما إذا خرج عن الإطار الديني فسوف نرى أن هذا الإنسان لا يستطيع أن يبني نفسه بناءً حقيقيا، بعض الناس يقول أنا لا أستطيع أن ألتزم بالدين، لأنه يمنعني عن التقدم والتطور، لكن هذا الإنسان غافل أو واهم، ولا يفهم أن كل التقدم والتطور الحقيقي يأتي من خلال الدين، لأن الدين يحقق التطور في قلبه وفي عقله وفي روحه وفي نفسه. وبالنتيجة يزكي نفسه، ويجعل من نفسه متقيةً، وعندما يتصاعد ويتكامل معنويا، فإنه يحقق كل المكاسب، وتكون المكاسب المادية في هذه الحالة مكاسب حقيقية، لأنها نابعة ومنبعثة من التكامل المعنوي عند هذا الإنسان.
فالتمسك بالدين هو الطريق الحقيقي للإنسان لذا على الإنسان أن لا يتخلى عن دينه، ولا يرتكب بعض السيئات ببواعث معينة أو بتبريرات واهية، فالتمسك بالدين يجعله ثابت القدم، ويجعله صدقا من المنتظرين للإمام الحجة المنتظَر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
رابعا: الحياة في اليقين
وهي من عناصر بناء الإنسان والثبات على الدين والتمسك به، فالإنسان الذي يعيش في اليقين يكون راسخ القدم وثابت على دينه ومبادئه، اليقين هو الذي يعطي للإنسان الاستقرار في نفسه وقلبه، ويجعله مطمئنا هادئا مستريحا في حياته، أما الإنسان الذي تراه غير مستريح في حياته، فهو يعيش الشك والقلق والخوف من المستقبل.
لا يمتلك الأمان ولا يشعر به، البعض يتصور أن توفير الأمن الموجود في الشوارع هذا سوف يحقق الأمن للناس، نعم هذا أمن خارجي وهو مطلوب، لكن الأمن الحقيقي الذي يحقق الأمان الحقيقي وشعور الإنسان بالاستقرار، هو الأمن الذي يُبنى في قلب الإنسان وفي نفسه عندما يتحقق له اليقين، وحينئذ سوف يكون ناجحا في الدنيا ومفلحا في الآخرة.
(والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة4/5.
فمعنى الحياة، وهو العيش مع اليقين، ومعنى الموت هو العيش مع القلق والشك، وليس معنى الموت هو موت الجسد، بل هو موت القلب، عذاب الروح، ارتياب النفس، فالقلق والشك والخوف أمراض سرطانية تأكل الإنسان وتنهشه من داخله، فتجعله خاويا فارغا لا يشعر بالاستقرار.
عن الإمام علي (عليه السلام): (لا حياة إلا بالدين، ولا موت إلا بجحود اليقين، فاشربوا العذب الفرات ينبهكم من نومة السبات، وإياكم والسمائم المهلكات)،(2) فالحياة مع الدين ولا تكون إلا بالدين، فالإنسان الذي لا دين له لا حياة له، لأنه لا يمتلك الاستقرار ولا الاطمئنان، وهذا الشيء يؤدي بدوره إلى قلق وهي سموم تؤدي الى موت الإنسان، عندما يكون يقين الإنسان متزلزلا، أو لا يقين له، فيسيطر عليه الشك والقلق، لذا بعض الناس بسبب القلق الذي يعيشونه، يصابون بأمراض شديدة جسمية نفسية، وبعضهم يصابون بأمراض سرطانية قاتلة.
القلق يحطمهم، الخوف يقتلهم، الشك يدمرهم، لأن هذا الإنسان يفقد مضمونه وجدوائيته في الحياة، ولا يرى فائدة في العيش فيها، ولا يرى الآخرة في بصره وبصيرته، لذلك فإن الإنسان الذي يوجد عنده يقين هو الذي يعيش ويحيى، لأنه يرى الغاية من الحياة، ويرى أن ما بعد الدنيا هناك آخرة وحساب وكتاب، فيشعر بالاطمئنان والاستقرار.
الدين هو العقل والعقل هو الدين
عن الإمام علي (عليه السلام): (إني إذا استحكمت في الرجل خصلة من خصال الخير احتملته لها واغتفرت له فقد ما سواها، ولا أغتفر له فقد عقل ولا عدم دين، لأن مفارقة الدين مفارقة الأمن، ولا تهنأ حياة مع مخافة، وعدم العقل عدم الحياة، ولا تعاشر الأموات)،(3).
فإذا استحكمت في الرجل خصلة من خصال الخير، يمكن لهذه الخصلة أن تغطي على أشياء أخرى موجودة في الإنسان كأن يكون جبانا، فإذا كان كريما فهذا الكرم يغطي عليه، فلا يظهر عليه الجبن، أو بالعكس إذا كان شجاعا فإن الشجاعة تغطي على بخله، وهكذا فبعض الخصال تغطي على عيوب الإنسان وتغطي على نواقصه.
لكن هناك أمران لا يمكن التغطية عليهما أبدا:
الأول: فقدانُ عقلٍ، فالإنسان الذي لا يوجد عنده عقل، أي يكون غير متعقلّ، وهذا هو معنى فقدان العقل، فلا يكون متعقلا ولا يستخدم عقله، ويكون تابعا لشهواته. الثاني: لا يوجد عنده دين. هاتان الخصلتان مهمتان جدا للإنسان، فإذا فقدهما سوف لا يمتلك الأمان، ولا توجد عنده شخصية، بل لا توجد عنده هوية وشعور بالانتماء في الحياة.
فهاتان الخصلتان ترتبطان مع بعضهما، لأن الدين هو العقل، والعقل هو الدين، كلاهما مطلوب، فلا يتصور الإنسان أنه إذا كان غير متعقل وكان عنده دين فإنه يمتلك الدين، كلا هذا تصور خاطئ، كذلك الإنسان الذي يمتلك الدين وغير متعقل فهو لا يمتلك الدين، لأن الدين والعقل كلاهما متكاملان مع بعض، لأن الدين هو التعقل، والتعقل يكون عند من عنده دين.
لأن الإنسان الذي يعتقد بنفسه أنه عاقل وليس عنده دين، فهو ليس بعاقل، فالعاقل هو الذي يدرك بأن الله سبحانه وتعالى يحرك هذا الكون، وأن هناك دنيا، وآخرة، وأن هناك حسابا وكتابا، وأن هناك شريعة وأحكاما شرعية، وأخلاقيات وفضائل، فهذا الإنسان المتعقل يدرك ذلك، أما إذا كان لا يدرك هذه القضايا فهو غير متعقّل.
الأمن الديني
(مفارقة الدين مفارقة الأمن)، لأن مفارقة الدين تعني مفارقة الأمن، فالإنسان الذي لا دين له لا أمن له، والأمن الديني، هو أهم أمن تحتاجه المجتمعات لأنه يحقق كل أنواع الأمان الاخرى، كالأمن السياسي، الأمن الاقتصادي، الأمن الاجتماعي، الأمن النفسي.
فإذا كانت كل الأنواع الأخرى من الأمان موجودة ولكن ليس هناك أهم ديني، فمعنى هذا ليس هناك أمن حقيقي، لأن الأمن الديني يعصم الإنسان بأن يقيه، يضبط المجتمعات ويجعلها متماسكة قوية ثابتة راسخة تجري وتسير بطريقة صحيحة وسليمة، تتناسب مع تحقيق الأمان المطلوب لكل الناس.
لذلك نلاحظ اليوم المجتمعات التي تفتقد الدين، تفتقد للأمن الحقيقي، وتعيش القلق والخوف، والانهيارات الأخلاقية المتلاحقة، والانهيارات النفسية المتزايدة، فتزداد الأمراض النفسية، وتزداد الأمراض الأخلاقية، وأيضا تتزايد فيها الجريمة والانحراف، كالانحراف الجنسي، والفساد الأخلاقي، وتزايد المخدرات والخمر في هذه المجتمعات.
لأنه عندما لا يستطيع الإنسان أن يحقق الأمان والشعور بالأمان، يهرب من هذه الحقيقة بعد أن يجعل من نفسه ضائعا مخمورا وسكرانا بسبب فقدانه لجوهر الوجود وشعوره به.
لذلك فإن الأمن الديني هو أساس عصمة المجتمعات، وهو أساس قوتها وتماسكها، فالذي يفارق الدين ولا يستمسك به سوف يفارق الأمن. ولا دين ولا حياة مع مخافة، فالحياة التي ليس فيها دين يكون فيها خوف وقلق، ولا يكون فيها سعادة وهناء، لهذا فإن عدم الدين هو عدم العقل وبالتالي عدم الحياة.
العقل جوهر وجود الإنسان
بالنسبة للإنسان الذي لا يستخدم عقله وغير متعقّل لعقله، حاله حال الجماد وحال الجدار، فهذا الجماد والجدار لا عقل فيه، مجرد شيء جامد لا أكثر، لا حياة فيه مجرد حجارة، كذلك الإنسان الذي لا عقل له يكون حاله حال الجدار، ولا يستطيع ان يكون مفيدا في حياته، فالعقل هو جوهر وجود الإنسان والتعقل هو إدراك لكينونته.
فالإنسان الذي لا عقل له لا وجود ولا حياة له، ويكون هذا الإنسان كالأموات، بالنتيجة فالذين لا توجد لديهم حياة، هؤلاء لا أحد يعاشرهم، فلا يوجد إنسان يعاشر الأموات، نلاحظ اليوم وجود مصطلح في حضارة اليوم، وفي خطابها الإعلامي، مصطلح يُطلَق عليه (الزومبي)، (4) ومعنى هذا المصطلح الإنسان الحي في جسده الميت في روحه ومشاعره، والبعض يرمز به الى الإنسان المعاصر للحضارة المادية الحديثة الذي فقد دينه وإيمانه، أصبح مجرد آلة من آلات عصر التكنولوجيا.
وبالنتيجة فقد عقله وروحه ونفسه وإيمانه وانسانيته، فيصبح مجرد جسد بلا روح يُسمى بالزومبي، وفعلا الحضارة المادية اليوم تصنع الزومبي، أي تصنع الإنسان الميت الذي يعيش على الملذات والحياة المادية المحضة، فلا حياة له، فنلاحظ أن هذا الإنسان لا يشعر بأنه حي، ولا يشعر بأنه موجود، ولا يشعر بأنه له قيمة في هذه الحياة.
لذلك لابد علينا أن ننفتح على روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ونتعمق فيها حتى نبني الحياة الصالحة في أنفسنا، وننمي العقل في ذواتنا، ونرسخ الدين في عقولنا وقلوبنا، من خلال الثبات على الدين، والتمسك المتعقّل بالدين.
فالتراث الكبير لأهل البيت (عليهم السلام) هو الذي يمنحنا الحياة، وهنا نكون مجسّدين لمعنى الانتظار، ولمفهوم الصبر والتحمّل في زمن غيبة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
الشك لباس للجاهل
لكن المشكلة الموجودة في عالم اليوم، أنه مع كثرة المعلومات وقلة المعرفة، وقلة التعلّم والاطلاع على تراث أهل البيت (عليهم السلام)، والتأمل فيه ودراسته، هناك نوع من الشك أخذ يتسلل إلى النفوس، فهؤلاء الذين لا يتعلمون جيدا يتلبس فيهم الشك ويؤثر عليهم بسبب قلة المعرفة لديهم.
لذلك يؤدي هذا الأمر إلى تزلزل دينهم، وضعف إيمانهم، فيصبح الشك مسيطرا على قلوبهم، وبالنتيجة فإن الإنسان الذي يسيطر عليه الشك، يفقد الأمن والإيمان.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) الأنعام 82.
وسأل الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: قال بشك)،(5).
يلبسوا تعني أن الشك أصبح لباسا له، أو سيطر عليه الشك، بحيث يؤثر على إيمانه، فهذا الإنسان هو الذي ظلم نفسه، لم يحاول البحث كي يتعلّم، لم يسعَ إلى التعلم لأنه واجب على الإنسان أن يتعلم وأن يحصل على المعرفة، فالشك الناتج عن التباس الأمور وعدم معرفة قواعد الحياة الصحيحة يؤدي الى الظلم، لانه يفقد توازنه وقدرته على رؤية عواقب اعماله، ومن هنا تبدأ الفوضى من الضياع والتيه.
ولذلك فإن الإنسان الذي لا يتعلم ولا يعرف، سوف ينخدع ويصبح سهل التضليل، وسهل الخداع من قبل الأفكار القادمة له، فيقع في فخ بعض المناهج الضالة، ويصبح منغمسا ومتلبّسا بها، مع أنها مناهج لا تحقق له المعرفة الحقيقية في الحياة، فهي مجرد مناهج مضلِّلة، تعطي رؤية قاصرة ضيقة لن تفيده في نهاية الأمر.
وهذا هو معنى تلبيس الإيمان بظلم، الإنسان هو الذي يظلم نفسه، حيث يرى هذه الكنوز الكبيرة لأهل البيت (عليهم السلام) ولا يطلع عليها فيرتوي من مناهلها، فهذا الإنسان يظلم نفسه عندما يذهب وراء مناهج أخرى لا تشبع حاجته ولا ظمأه ولا تحقق له الأمن والاستقرار في نفسه وعقله وروحه.
تحقيق الامن بالاهتداء
(لهم الأمن) أي أنهم يحققون الأمن، والأمان النفسي، والأمان الروحي، والأمان في الدنيا، فيشعر بالأمان لأنه سوف يكون متّجها نحو الآخرة، لانهم (مهتدون)، فالهداية تعني تحقيق الأمن الداخلي في نفس الإنسان (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، الرعد 28. وهكذا يكون الإيمان راسخا في قلبه، فيكون ثابتا على دينه، فمعنى الأمن هو الاهتداء وعدم الضياع في تموجات الشك.
لا تأخذه الأمواج والتموجات الفكرية من هنا وهناك، ولا يتأثر بآراء الآخرين، وهو عاقل متعقل مطلع على روايات أهل البيت (عليهم السلام) حتى لا يأخذه الشك فيتلبس به ويشوش عليه القيم الحقيقية المنبثقة من الواقع.
لأن الإنسان بمجرد أن يتسلل إليه الشك، سوف يتحول ويأخذه كالإعصار الشديد، ويبتلعه، لذلك لابد أن يكون الإنسان حذرا تجاه الشك حتى لا يأخذه في طرق الانحراف، بل يجب أن يكون راسخ الإيمان ليس بجمود وإنما بتعقّل وفهم.
الإيمان معرفة وعلم
الإيمان الحقيقي هو الذي يأتي من الاقتناع الذاتي، والفهم المتبصر والمعرفة الحقيقية، هنا يتحقق الثبات على الدين، أما حين يكون الإنسان جامدا ويتمسك بتعصب بالدين، فهذا لا يعني بأنه يمتلك اليقين، فمثل هذا الإنسان يحصّن نفسه من خلال الجمود والتصلب الذي لا يستند إلى المعرفة، لذلك نلاحظ في بعض الأحيان أن هؤلاء الذين يكون عندهم جمود، هؤلاء بالنتيجة لا يستطيعون ان يحموا أنفسهم، ولو كان لاحقا.
حيث ينهارون في وقت ما أمام تموجات كبيرة تأتي عليهم وتجرفهم، لذلك فإن الإيمان واليقين يحتاج إلى معرفة وعلم، وتعلّم، وتفكّر، وتدبّر يتراكم عند الإنسان حتى يصل إلى مرتبة اليقين، واليقين هو حصيلة الإيمان والمعرفة.
المبادئ منظومة واحدة متكاملة
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: (بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان، فهو الملبس بالظلم).(6)
لم يخلطوا ولايتهم لأنها المبادئ واحدة، لا يمكن أن تأخذ مجموعة مبادئ متناقضة من هنا وهناك حسب مزاجك، مثلا تأخذ مجموعة مبادئ من اليسار وأخرى من اليمين وتجعلها منهجا لك في الحياة.
فالمبادئ واحدة لأنها تكون منظومة متكاملة متجانسة، مركَّب عضوي والمركب العضوي إذا انتفى جزء منه انتفى المركب كلّه، فهو مركب ثابت، ولا يمكن لك أن تنتقي بعض المبادئ حسب مزاجك، لأنه إذا أنت قمت بتلبيس مجموعة مبادئ وجعلتها في مركّب عضوي واحد، هذا يعني إنك تضلّل نفسك وتلبسها بالشك بهذه المنظومة.
لذلك لابد أن نتخذ من منظومة أهل البيت (عليهم السلام)، منظومة كاملة لنا، دون التأثر بالمنظومات الأخرى، ودون أن نخلط هذه المنظومة بمنظومات أخرى، وإنما نتمسك بمنظومة واحدة لتراث أهل البيت (عليهم السلام)، وهنا نستطيع أن نبني الثبات على الدين، وأن نرسخ أقدامنا في زمن الغيبة.
أن نبني تمسكنا بالدين، وأن نغذي في أنفسنا وقلوبنا الثبات على ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، والثبات على الصبر، والتقوى، والانتظار في زمن الغيبة للإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، جعلنا الله سبحانه وتعالى من المنتظرين الصالحين، الثابتين القدم المتمسكين بديننا.
قال الإمام الصادق (ع): (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق قلت: وكيف دعاء الغريق؟
قال: تقول: يا الله يا رحمان يا رحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، فقال: إن الله عز وجل مقلب القلوب والأبصار ولكن قل كما أقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).(7)
اضف تعليق