نجاح الامام العسكري في تعميم ثقافة الكتمان والسرية في التحرك، وفي وسائل الاتصال به خوفاً من عيون السلطة واجراءاتها القمعية، جعلها تفقد صوابها وتزيد من تشديد الحصار والاقامة الجبرية عليه، عليه السلام، في ثكنة عسكرية بمدينة سامراء، ومنها لُقب الامام بالعسكري، وقد تعرض للاعتقال غير مرة على يد الحكام العباسيين...
الإمام الحادي عشر من أئمة الهدى؛ الحسن بن علي العسكري، عليه السلام، الذي يصادف الثامن من ربيع الثاني ذكرى مولده، هو آخر الأئمة المعصومين جرت ولادته وسط ظروف سياسية طبيعية، لأن هذه الظروف تعقدت بشدّة في ولادة ابنه الامام الثاني عشر؛ الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، مما خلق أجواءً ارهابية من قبل الدولة العباسية الساعية منذ نشوئها لتحديد تحركات الأئمة من أهل بيت رسول الله، ومطاردة شيعتهم، بل واعتقالهم وقتلهم.
في مقالات سابقة أشرنا الى إحدى المهام الرسالية في عهد الامام العسكري، وهي؛ إعداد السفراء والوكلاء، ومن ثمّ الفقهاء والمحدثين ليكونوا الامتداد الطبيعي لهم بين افراد الأمة قبل حلول الغيبة الكبرى، وفي هذا المقال نسلط الضوء على مهمة أخرى ذات بعد انساني عظيم تمثلت في اهتمام الامام العسكري بأرواح شيعته ومحاولة إبعادهم عن بطش السلطة العباسية وقمعها الدموي، ربما للحفاظ على تماسك وقوة القاعدة الاجتماعية للشيعة في تلك الفترة التاريخية الفاصلة.
منهج الكتمان يغيض الدولة العباسية
نجاح الامام العسكري في تعميم ثقافة الكتمان والسرية في التحرك، وفي وسائل الاتصال به خوفاً من عيون السلطة واجراءاتها القمعية، جعلها تفقد صوابها وتزيد من تشديد الحصار والاقامة الجبرية عليه، عليه السلام، في ثكنة عسكرية بمدينة سامراء، ومنها لُقب الامام بالعسكري، وقد تعرض للاعتقال غير مرة على يد الحكام العباسيين المتتابعين، ومنهم المتوكل العباسي المعروف بعدائه الشديد لأهل البيت، عليهم السلام، وفي كل مرة يطلق سراحه بعد عجزهم من إلصاق أي تهمة مبيّنة عليه.
كان الإمام يوصي شيعته بالتزام الحيطة والحذر في طريقهم اليه للقائه، حتى أنه طلب منهم بأن "لا يُسَلِّمَنَّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يُومئ، فإنكم لا تؤمنون على أنفسكم"، وجاء في كتاب السيد كاظم القزويني؛ الامام العسكري من المهد الى اللحد: "ما مُنِيَ أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيتُ به"، في إشارة الى حجم الضغوط التي تعرض لها في عهده من العباسيين.
ليس هذا فقط، بل إنه، عليه السلام، "لم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات، وجاء في "بحار الانوار"، أن الامام العسكري التقى ذات مرة في السجن ببعض اصحابه، "وكان في السجن رجل جمحي يدّعي انه علوي، فالتفت الامام وقال: لولا أن فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرج عنكم، و أومأ الى الجمحي أن يخرج، فخرج، فقال الامام، عليه السلام، هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، وإن في ثيابه قصة قد كتبها الى السلطان يخبره بما تقولون فيه، فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجدوا فيها القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة"، وهكذا أحبط الإمام محاولة تجسس من السلطة ضد الامام وشيعته.
وكان، عليه السلام، يتبع اسلوب التمويه لتأمين تحركات ونشاطات شيعته، فكانوا اذا أرادوا حمل الأموال والحقوق الشرعية الى الإمام، كانوا يستعينون بأحد المقربين مثل؛ عثمان بن سعيد العُمْري السمان، الذي تم انتخابه فيما بعد كأحد سفراء الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، وكان يتاجر حينها بالسمِن "الزيت"، فيضع الأموال التي يتسلّمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام العسكري لتكون بعيداً عن عيون الجواسيس وعملاء السلطة العباسية.
السرية في التحرك مع الاندماج في المجتمع
اجراءات السرية والكتمان كانت في مدرسة الامام العسكري بمنزلة الوسيلة لتحقيق النجاح في العمل الرسالي من خلال توثيق العلاقة بأبناء المجتمع، وليس الانعزال والانطوائية والخوف من الناس، كما سقط في هذه التجربة الفاشلة الكثير من الثوار والمعارضين في التاريخ.
ففي وصية له، عليه السلام، لشيعته، بعد تذكيرهم بالتقوى والورع وصدق الحديث وأداء الأمانة بأن "صِلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فان الرجل منكم اذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرّني ذلك، اتقوا الله و كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً".
وهذا دليل واضح على أن الامام العسكري، كما سائر الأئمة المعصومين، كانوا يمثلون في منهجهم، وسيرة حياتهم، القيادة بكل مواصفاتها للأمة، وليس فقط لشيعتهم واصحابهم في دائرة ضيقة، وإذن؛ لا وجود لطائفة او جماعة عند الامام العسكري، وعند أئمة أهل البيت، عليهم السلام، بقدر ما إن الخطاب موجه الى افراد الأمة دون استثناء، على أمل ان تعمّ اليقظة والوعي لتزداد القاعدة الجماهيرية المؤمنة والملتزمة بمنهج أهل البيت، عليهم السلام.
لم يعش الإمام العسكري سوى ثمانية وعشرين سنة، وقد تولى الإمامة بعد أبيه الامام الهادي لمدة خمس سنوات فقط، بمعنى أنه أمضى فترة قصيرة بين شيعته، ومات في ريعان الشباب، وخلّف أثراً بارزاً في مسيرة الرسالة المحمدية، متحدياً كل الضغوط ومحاولات التسقيط والتصفية، ليجعل القاعدة الاجتماعية والوضع النفسي مهيئاً لولده الإمام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، فقد ترك للساحة الشيعية فطاحل العلماء والفقهاء الأخيار ممن أصبحوا فيما بعد سفراء لولده المهدي.
اضف تعليق