حريٌ بنا أن نتعرف على حجم تضحيات أبناء عقيل، شقيق أمير المؤمنين، عليهما السلام، في واقعة الطف، لنعطي حق هذه الأسرة أمام التشويه والانتقاص عن قصد او دون قصد من أقلام ماتزال حتى اليوم تحمل مؤثرات الدعاية الأموية ضد شخص أمير المؤمنين، في أخيه عقيل...
"أحبّ عقيلاً حُبّين؛ حُباً له، وحُباً لأبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبّة ولدك، تدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون، ثم بكى رسول الله، وقال: الى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي".
من حوارٍ بين أمير المؤمنين ورسول الله، صلوات الله عليهما
تسارعت سنابك خيل الجيش الأموي على الأطفال والنساء بعد ارتكابهم جريمتهم النكراء بقتل سبط رسول الله، وريحانته؛ الامام الحسين في ساحة المعركة، فقُتل من قُتل، وسُحق من سُحق في ذلك المشهد العدواني الآثم، بيد إن اثنين من أولاد مسلم بن عقيل، وكانوا بين أسرة عقيل التي تعبئت كلها لنصرة ابي عبد الله الحسين يوم عاشوراء، تمكنا من الابتعاد من ساحة المعركة لشدة الخوف والهلع، وهما؛ محمد وابراهيم، وكانا صبيان صغيران، ولكن لم يلبثا أن وقعا في أسر جُند عمر بن سعد، فجيء بهما الى ابن زياد في الكوفة.
أسرة عقيل والوفاء للرسالة المحمدية
وقبل سرد ما جرى لهما، وهو ما تتناقله الألسن على ظهر القلب، وتتداوله الأجيال، وهو الأمر الحَسَن، ثمة ملاحظة تاريخية على توقيت اعتقال هذين الصبيين، فحسب المصادر التاريخية أنهما وصلا بين يدي ابن زياد بعد تحرك قافلة السبايا من الكوفة الى الشام، وهكذا يبدو من الروايات التاريخية التي نقلها السلف الصالح، ومنهم؛ الشيخ الصدوق في "أماليه"، حيث ذكر القصة كاملة، رضوان الله عليه.
ثم حريٌ بنا أن نتعرف على حجم تضحيات أبناء عقيل، شقيق أمير المؤمنين، عليهما السلام، في واقعة الطف، لنعطي حق هذه الأسرة أمام التشويه والانتقاص عن قصد او دون قصد من أقلام ماتزال حتى اليوم تحمل مؤثرات الدعاية الأموية ضد شخص أمير المؤمنين، في أخيه عقيل.
فقد قرأت في كتاب "موسوعة كربلاء"، للكاتب والباحث اللبناني؛ لبيب بيضون، أنه خرج مع الامام الحسين، عليه السلام، الى كربلاء، من نساء عقيل؛ ستة، ومن أولاده الذكور؛ اثنا عشر، وعدد من بناته قدّرناه بخمسة، على النحو التالي:
1- جعفر بن عقيل بن أبي طالب، وأمه أم الثغر، و يقال لها؛ أم الحفصاء العامرية، خرجت مع ولدها.
2- عبد اللّه الأصغر بن عقيل.
3- موسى بن عقيل، وأمه أم البنين بنت أبي بكر بن كلاب العامرية، جاءت مع ولدها.
4- علي بن عقيل، و أمه أم ولد.
5- أحمد بن عقيل، و أمه أم ولد، جاءت مع ولدها.
6- عبد اللّه الأكبر.
7- عبد الرحمن بن عقيل، ومعه ابناه.
8- عون بن عقيل (ذكره ابن شهراشوب).
أما من ابناء مسلم بن عقيل فقد خرج مع الامام الحسين، عليه السلام، عدد لا يستهان به –يقول الدكتور بيضون- منهم:
1 و 2- عبد اللّه و محمد ابنا مسلم بن عقيل، وأمهما رقية بنت أمير المؤمنين، عليه السلام، خرجت مع ولديها، و قد استشهدا في الطف.
3 و 4- صبيان آخران اسمهما محمّد و إبراهيم من أولاد مسلم بن عقيل، قتلا في الكوفة بعد أن فرّا من بين يد الأعداء، قتلهما الحارث اللعين، و أمهما رقية الكبرى بنت أمير المؤمنين، عليه السلام، كما استشهدت أختهما عاتكة بنت مسلم بن عقيل، و لها من العمر سبع سنين، و هي التي سحقت يوم الطف بعد استشهاد الامام، عليه السلام، أثناء هجوم خيل الأعداء على المخيم، أمها خديجة بنت أمير المؤمنين، عليه السلام، فقد توفيت بالكوفة.
5 و 6- سعد و عقيل ابنا عبد الرحمن بن عقيل: ماتا من شدة العطش و من الخوف و الذعر بعد شهادة الحسين (عليه السلام)، لما هجم القوم على المخيم للسلب و النهب.
وفي كتابه "الشهيد مسلم بن عقيل"، يقول عبد الرزاق المقرّم: "لمسلم بن عقيل بنت اسمها حميدة، أمها أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين، عليه السلام"، ويحتمل المقرّم ان يكون مسلم قد تزوج بإحدى الاختين بعد وفاة أحدهما.
في كل الأحوال؛ نخرج بحصيلة جهادية بارعة لأسرة عقيل بن أبي طالب التي لم يبق منهم من الأولاد الذكور بعد واقعة الطف إلا وقد خُضم بدمه على يد القساة العتاة من المجتمع المتشبّث لقيم الجاهلية التي طالما ضحى رسول الله، وأمير المؤمنين، وبذلا الغالي والنفيس للقضاء عليها.
قسوة القلب و الخسران العظمى
سبحان الله؛ وسبحان تقديراته في أوليائه الصالحين، كم هي العِبْرة والعِضَة البالغة لنا وللأجيال على مر التاريخ عندما نقرأ قصة هذه الأسرة الفاضلة والمظلومة! فقد تطابق سبب اعتقال مسلم بن عقيل واستشهاده، مع سبب اعتقال واستشهاد ولديه؛ محمد وابراهيم، ألا وهو؛ الطمع بالجائزة (المال) لدى سلطان جائر.
مسل بن عقيل، وشى به ابن طوعة؛ تلك المرأة الصالحة التي آوته في الكوفة، أما ولديه؛ فقد وشى بهما زوج المرأة العجوز التي آوتهما وحفظت منزلتهما ومكانتهما من رسول الله.
المال، والمال... هذه القوة الجاذبة بشدة لا يقوى على مقاومتها إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، ولطالما أغوى، وأفنى الكثير عبر التاريخ البشري، فهلك عبّاده، وغابوا تحت التراب بانتظار يوم حساب عسير، بينما هو بقي على الأرض يبحث عن الجديد ممن على عينه غشاوة، لا يبصر الخسارة العظمى في حياته عندما يسقط في الفخّ.
عيّن ابن زياد ألفي دينار جائزة لمن يأتي برأس ولدي مسلم بن عقيل بعد أن تمكنا من الهرب من سجن الكوفة بمساعدة أحد المؤمنين ممن له قلب سليم، وعندما سمع زوج تلك المرأة الصالحة بوجود الصبيين في منزله، انتزعهما على الفور وطلب من غلامه أن يذهب بهما الى شاطئ الفرات ويضرب عنقهما ويأتي برأسمها، فرفض، ثم بعث ابنه، فرفض ايضاً –حسب الروايات- فقام بنفسه لارتكاب هذه الجريمة، وعندما بلغ بهما شاطئ الفرات، وسلّ سيفه ليضربهما قالا له: يا شيخ، إن احتجت الى المال انطلق بنا الى السوق واستمتع بأثماننا، ولا يكون محمدٌ خصمك يوم القيامة، فقال: كلا! بل اقتلكما، واذهب برأسيكما الى عبيد الله بن زياد، وآخذ الجائزة، فقالا له: ياشيخ، أمَا تحفظ قرابتنا من رسول الله؟! قال: ما لكما من رسول الله من قرابة، قالا له: ياشيخ، فأتِ بنا الى ابن زياد حتى يحكم فينا حكمه، قال: ما بي الى ذلك سبيل، إلا التقرّب اليه بدمكما! فقالا له: ياشيخ، أما ترحم صِغَر سِننا؟! قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئا!! قَالا: يا شيخ، إِن كَانَ وَلَابد، فدعْنَا نُصَلِّي ركعات، قال: فصليّا ما شئتُما، إِنْ نفعتْكُمَا الصلاة! فَصَلَّى الصبيان أربع ركعات، ثُمَّ رَفَعَا طَرْفَيْهِمَا إِلَى السمَاءِ فناديا: يا حيُّ يا حَكِيم، يا أحكم الحاكمين، احكُم بيننا وبينه بالحق.
يقول الشيخ الصدوق في آماليه، وهو يروي القصة، أن المجرم أتى الى قصر الإمارة وكله أمل بأنه يحظى بجائزة ابن زياد، فدخل عليه هو جالس وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأْسين الشريفين بين يديه.
ومعروف عن ابن زياد تعامله الماكر والمتخاذل مع المتزلفين اليه، ففعل كما فعل مع عمر بن سعد حينما خاطبه متزلفاً ليأخذ جائزته (ولاية الري): "قتلت خير الناس أمّاً و أبا"، فقال: له إن كنت تعلم أنه كذلك، لِمَ قتلته؟! اخرج لا جائزة لك! وتكرر الموقف مع قاتل ولدي مسلم، عندما أسهب أمام ابن زياد ما جرى قبل قتلهما، ربما تأكيداً له بأنه ماضٍ على العهد الجاهلي، ملتزماً منهج القسوة والغلظة، ولم يَلِن لاستعطافهما، فلما بلغ بالحوار الى دعاء الصبيين في صلاتهما: يا حَيُّ يا حكيم، يا أحكم الحاكمين، احكم بيننا وبينه بالحق، عندها قال له ابن زياد: فَان أحكم الحاكمينَ قد حكم بينكم! و أمر أن تُضرب عنقه في نفس المكان الذي نفذ فيه جريمته النكراء، فما أسرع اللقاء والمحاكمة بين يدي الله –تعالى- بحضور رسول الله، وأمير المؤمنين، ليسألوا هذا المجرم؛ ما كان يضيرك لو اطلقت الصبيين، كما فعل عدة اشخاص من قبله خلال مسيرة الهروب؟ او حتى تأخذ باقتراحهما ببيعهما في السوق وقبض الثمن، وهو اقتراح وجيه نزولاً عن نفسيته المادية، وإن فعلاً قبيحاً، لكن أدنى من قبح القتل وفضاعته؟
القسوة التي يخلقها المال في قلب الانسان ليس بالضرورة أن تدفع صاحبها لرفع السيف، او في وقتنا الحاضر؛ السلاح الناري وقتل انسان آخر، بل ربما يكون هنالك قتل من نوع آخر أشد فتكاً وفضاعة عندما يكون بتسقيط شخصية، او اختلاق ونشر الاكاذيب، او انتهاك حقوق الآخرين.
وسلام الله على ولدي مسلم بن عقيل بن أبي طالب، يوم ولدا، ويوم استشهدا، ويوم يبعثا حيّا بين يدي رب قدير ليحكم بينهما وبين من قتلهما وهو أحكم الحاكمين.
اضف تعليق