فإذا كان النظام صالحاً انتشر الصلاح في العباد والبلاد، وإذا كان النظام فاسداً ظهر الفساد في البر والبحر. والأُمّة الإسلامية التي تعتبر نفسها في طليعة الأُمم الراقية المتحضّرة لا بدّ وأن يكون لها نظام، وإنّ الله تعالى جعل إطاعة أهل البيت (عليهم السلام) نظاماً للملّة الإسلامية...
بقلم: السيد محمّد كاظم القزويني
ثم انتقلت (السيدة فاطمة الزهراء -عليها السلام-) إلى ذكر الفلسفة الإسلامية، أو علل الأحكام في الشريعة الإسلامية وما هناك من فوائد وأسرار، وحكَم في التشريع الإسلامي التي هي للوقاية أكثر ممّا هي للعلاج، وقد قيل: (الوقاية خير من العلاج)، وسيتضح لك ذلك، قالت (عليها السلام):
(فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك) وفي نسخة: (ففرض الله الإيمان) الآيات الواردة في القرآن الكريم، الآمرة بالإيمان بالله وحده، إنّما هي لغرض التطهير من أرجاس الشرك بالله، فالشرك بمنزلة المكروبات الضارّة، والإيمان تعقيم لها، فالشرك قذارة متعلّقة بالأذهان، ملتصقة بالعقول، قد تلوّثت بها القلوب، والإيمان تطهير عام لإزالة تلك القذارة.
(والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) المقصود من تشريع الصلاة هو القضاء على رذيلة الكبر؛ لأنّ الصلاة خضوع وخشوع لله وركوع وسجود وتذلّل، وأكثر المصابين بداء الكبرياء هم التاركون للصلاة.
(والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق) وفي نسخة: (والزكاة تزييداً لكم في الرزق) إنّما سُمّيت الزكاة لأنّها تزكّي الإنسان، استمع إلى قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) وقد جعل الله تعالى البركة والنمو في إعطاء الزكاة، فيأذن الله للأرض أن تجود ببركاتها فيكثر الزرع ويمتلئ الضرع، وتتراكم الخيرات، وتتضاعف الثمار.
(والصيام تثبيتاً للإخلاص) قد يمكن أن يصلّي الإنسان قصد الرياء، ولا يمكن أن يصوم ويطوي نهاره جائعاً عطشاناً، ويتحمّل المشقّة لسبب الإمساك والامتناع عمّا يشتهي بقصد الرياء، فالصوم من أظهر العبادات الخالصة لوجه الله الكريم.
(والحج تشييداً للدين) للحج فوائد ومنافع معنوية لا تتحقّق بغير الحج، فالحج عبارة عن عدد كبير من المسلمين من بلاد بعيدة وأقطار عديدة، من شرق الأرض وغربها وعن كل قطر يسكن فيه مسلم يستطيع الحج، في أيام محدودة وأماكن معينة، على هيئات خاصة وكيفيّات مخصوصة، فيلتقي بعضهم ببعض، ويتعرّف المسلم الأفريقي بالمسلم الآسيوي، ويطلّع المسلم الشرقي على أحوال المسلم الغربي، وما هناك من فوائد تحصل من تلك اللقاءات، أضف إلى ذلك الفوائد التي تعود إلى نفس الإنسان الحاج من الخضوع والتذلّل لله، والتوبة والاستغفار وغير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره.
(والعدل تنسيقاً للقلوب) وفي نسخة: (وتنسيكاً للقلوب) لا أعرف لتعليل العدل تعريفاً أحسن وأكمل من هذا التعريف؛ لأنّ تنسيق القلوب تنظيمها كتنسيق خرز السبحة، وتنظيمها بالخيط، فلو انقطع الخيط تفرّقت الخرز وتشتّتت، واختلّ التنظيم وزال التنسيق.
إنّ العدل في المجتمع بمنزلة الخيط في السبحة، فالعدل الفردي والزوجي والعائلي والاجتماعي، والعدل مع الأسرة ومع الناس، يكون سبباً لتنظيم القلوب وانسجامها بل واندماجها، وإذا فُقد العدل فُقد الانسجام، وجاء مكانه التنافر والتباعد والتقاطع، وأخيراً التقاتل.
وليست العدالة من خصائص الحكّام والولاة والقضاة، بل يجب على كل إنسان أن يسير ويعيش تحت ظلال العدالة، ويعاشر زوجته وعائلته وأُسرته ومجتمعه بالعدالة إبقاءً لمحبّة القلوب.
(وإطاعتنا نظاماً للملّة) وفي نسخة: (وطاعتنا) كل أُمّة إذا أرادت أن تعيش لا بدَّ لها من اختيار نظام حاكم سائد، والنظام كلمة واسعة النطاق، كثيرة المصداق غزيرة المعاني.
فالحكومات، وتشكيل الوزارات، وتنظيم الدوائر، وسنّ القوانين، وإصدار التعاليم في شتّى المجالات يقال لها: نظام. ولا بدّ - طبعاً - من تنفيذ النظام، والخضوع والانقياد له، ويقال له: التنظيم.
فإذا كان النظام صالحاً انتشر الصلاح في العباد والبلاد، وإذا كان النظام فاسداً ظهر الفساد في البر والبحر.
والأُمّة الإسلامية -التي تعتبر نفسها في طليعة الأُمم الراقية المتحضّرة- لا بدّ وأن يكون لها نظام، وإنّ الله تعالى جعل إطاعة أهل البيت (عليهم السلام) نظاماً للملّة الإسلامية، ومعنى ذلك أنّ الله جعل القيادة العامّة المطلقة العليا، والسلطة لأئمّة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) وهم عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط، لا كل مَن يستلم زمام الحكم، أو يجلس على منصّة القيادة تجب إطاعته وتنفيذ أوامره.
وإنّما جعل الله إطاعة أئمّة أهل البيت نظاماً للمسلمين؛ لأنّ الله تعالى زوَّدهم بالمواهب، ومنحهم الأهليّة، وأحاطوا علماً بكل ما ينفع المجتمع ويضرّه، وبكل ما يُصلح الناس ويفسدهم.
وجعلهم الرسول عِدْل القرآن بقوله (صلى الله عليه وآله): إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وإنّكم لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما.
ولقد سبق أن تحدّثت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن القرآن وأنّه بقيّة استخلفها عليكم، ثم ذكرت بعض ما يتعلّق بعظمة القرآن، ثم انتقلت إلى ذكر فلسفة الإسلام، ثم انتقلت إلى ذكر الثقل الثاني، وهم العترة، وهم أهل البيت، وهم أُولو الأمر الذين أوجب الله إطاعتهم على العباد بقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ).
فو الله لو أنّ المسلمين فسحوا المجال - من أوّل يوم - لأهل البيت وأطاعوهم لكانت الدنيا روحاً وريحاناً وجنّة نعيم، وكانت السعادة شاملة لجميع طبقات البشر على مرّ القرون، وما كانت تحدث المفاسد والمجازر والمذابح على وجه الأرض، وما كانت الأموال تُسلب، والأعراض تُهتك، والنفوس تزهق ظلماً، وما كان الجهل والأُمّية والتأخير والتفسّخ منتشراً بين الأُمّة الإسلامية، وما كان في الأرض فقر ولا حرمان، ولا اضطهاد ولا جوع.
(وإمامتنا أماناً للفرقة) وفي نسخة: (لماً للفرقة) إمام على وزن كتاب هو المقتدى، انظر إلى إمام الجماعة كيف يقتدي به المأمومون في أفعال الصلاة من قيام إلى ركوع وسجود وهكذا، فهو مقتدى في أفعال محدودة؛ ولهذا يقال له: إمام صلاة الجماعة، أو إمام الجماعة في الصلاة.
والإمامة الكبرى التي هي الخلافة العظمى، منصب سماوي، ومنزلة تتعيّن من عند الله تعالى؛ لأنّها تالية للنبوّة من حيث العظمة والأهمّيّة، انظر إلى أولياء الله كيف يسألون الله تعالى أن يبلّغهم تلك المنزلة الرفيعة والدرجة السامية.
فهذا إبراهيم الخليل (عليه السلام) يأتيه النداء من عند الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي المقتدى به في أفعاله وأقواله، وأنّه الذي يقوم بتدبير الأُمّة وسياستها والقيام بأُمورها، وتأديب جُناتها، وتولية ولاتها، وإقامة الحدود على مستحقّيها ومحاربة مَن يكيدها ويعاديها، وليس المقصود من الإمامة - هنا - النبوّة؛ لأنّ إبراهيم كان نبيّاً حينذاك وإنّما أضاف الله له الإمامة إلى النبوّة.
وأنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ) يتضح لك أنّ تعيين الإمام يجب أن يكون من عند الله، ولا يحق للناس أن يعيّنوا لأنفسهم إماماً حسب آرائهم الشخصية وهواياتهم الفردية.
وإذا تدبّرت بقيّة الآية تنكشف لك حقائق أخرى وهي قوله: (وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي لما أخبر الله إبراهيم بالإمامة قال إبراهيم: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذرّيّتي مَن يوشّح بالإمامة وبهذه الكرامة. قال تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال مجاهد: العهد الإمامة. وقد رُوي ذلك عن الإمامين: الباقر والصادق عليهماالسلام أي لا يكون الظالم إماماً للناس. وهذا يدل على عصمة الأئمّة؛ لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده (الذي هو الإمامة) ظالم، ومَن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إمّا لنفسه وإمّا لغيره.
وإذا تأمّلت في هذه الآيات البيّنات يتضح لك أنّ المناصب السماوية والوظائف الإلهيّة ينبغي أن تكون من عند الله تعالى وتعيينه وجعله، تدبّر في قوله تعالى:
(يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) (1).
(وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (2).
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) (3).
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (4).
(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (5).
(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (6).
(وَاجْعَل لي وَزِيراً منْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي) (7).
وغيرها من الآيات التي تتجلّى فيها كلمة: (جعلنا) و(اجعلنا) و(جعلناهم) وما أشبه ذلك.
وهنا تقول الزهراء (عليها السلام): (وإمامتنا) إنّها تقصد إمامة الأئمّة الاثني عشر، وشخص زوجها العظيم أبا الأئمّة عليّاً (عليه السلام).
(والجهاد عِزّاً للإسلام) العِزّة لا تحصل إلاّ بالقوّة، وتظهر القوّة باستعمال السلاح واستعراض الجيش، وإظهار المعدّات الحربيّة، وتجلّي البطولات وغير ذلك.
وأحسن استعراض للقوّة وإثبات الشخصية هو الجهاد في سبيل الله، فالقوّة والقدرة والإمكانية والتضحية، ومدى تعلّق المسلمين بالمبدأ، والمواهب التي تظهر في جبهات القتال، وتظهر النتيجة بالانتصار والظفر والغلبة على أعداء الدين، واستيلاء الخوف على كل مناوئ للإسلام، والقوي لا يخضع إلاّ للقوّة، لا للإنسانية فقط، ولا للثروة فقط، بل للقوّة، وهكذا تجتمع العِزّة للأُمّة القويّة، وللمبدأ الذي يعتنقه الأقوياء.
(والصبر معونة على استيجاب الأجر) الصبر على المكاره من فقر إلى مرض إلى دَين إلى سجن إلى مصيبة، يدل على التسليم لإرادة الله تعالى، والتسليم فضيلة سامية ومنزلة عالية يستعين بها الإنسان الصابر على تحصيل الجزيل، والثواب الأوفى، وبالصبر يتمّ فعل الطاعات وترك السيئات.
(والأمر بالمعروف مصلحة للعامة) فرض الله الأمر بالمعروف على كل مكلف في حدود القدرة والإمكانية بشروط معيّنة مذكورة في محلّها، ويعتبر نوعاً من الجهاد، ومعنى ذلك أنّ كل فرد من أفراد المسلمين يعتبر نفسه مسؤولاً عن الدين مرتبطاً به، غير منفصل عنه، وهو تفسير عملي لقوله (صلى الله عليه وآله): (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته) لأنّ الإسلام لا يؤمن باللامبالاة وبالانعزال عن المجتمع الديني؛ لأنّ الإسلام يعتبر المسلمين أُسرة واحدة مترابطة، وأُمّة واحدة يربطها رباط الدين والعقيدة.
(وبرّ الوالدين وقاية من السخط) وفي نسخة: (والبرّ بالوالدين وقاية من السخطة) ومعنى ذلك أنّ عقوق الوالدين يُسبب سخط الله وغضبه على العاق لوالديه، إذن يكون الإحسان إليهما سبباً للوقاية من غضب الله تعالى، وبعد إلقاء نظرة على الآيات التي توصي برعاية حقوق الوالدين تتضح لنا أهميّة هذا الجانب الأخلاقي:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا...) (8).
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ...) (9).
(وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...)(10).
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (11).
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (12).
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...) (13).
(وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (14).
بعد الانتباه إلى هذه الآيات ينكشف لنا معنى كلامها (عليها السلام): وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وهذا البحث يتطلّب مزيداً من الشرح والتفصيل، ولكنّنا اكتفينا بما تيسّر.
(وصلة الأرحام منماة للعدد) وفي نسخة: (وصلة الأرحام منسأة للعمر، ومنماة للعدد) إن للأعمال آثار طبيعية ولا يمكن التخلف عنها، فالذي يصل رحمه - أي أقربائه الذين تجمعه وإياهم رحم من أرحام الأمهات - باللسان أو باليد أو بالمال لا بد وأن يكون طويل العمر، كثير النسل والعدد، كثير المال، ولقد وردت أحاديث كثيرة متواترة جداً حول صلة الرحم، وإنها تزيد في الثروة وتؤخّر الأجل (أجل الموت).
وكذلك قطع الرحم يسبّب قصر العمر وزوال المال.
ولقد شاهدنا في عصرنا الكثير من الناس الذين وصلوا أرحامهم فدرّت عليهم الأيام خيرها وبركاتها، وكثر عددهم ونسلهم مع العلم أنّ مؤهّلات التكاثر لم تكن متوفّرة فيهم.
كما قد رأينا الكثيرين من أبناء زماننا الذين قطعوا أرحامهم أي قطعوا العلاقات الودّيّة - بجميع أنواعها - مع أقربائهم، فكأنّهم قطعوا جذور أعمارهم، وهدموا أُسس حياتهم وبقائهم بأيديهم فانقرضوا بعد أن افتقروا.
(والقصاص حقناً للدماء) لا يوجد في سجلاّت القوانين في العالم كلّه قانون المحافظة على حياة الناس كقانون القصاص؛ ولهذا قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (15).
والعجب أنّ القضاء على حياة القاتل يعتبر إبقاءً وحفظاً لحياة الآخرين، إذ إنّ الإنسان إذا عزم على قتل أحد ظلماً إذا علم أنّه سوف يُقتص منه، ويُقتل، فإنّه بالقطع واليقين سيمتنع من الإقدام على الجريمة، ولكنّه إذا علم أنّ جزاءه السجن، وفي السجن الراحة والأكل والشرب، ورجاء شمول العفو، والتخفيف، أو دفع العوض وما شابه ذلك من الرشوة وشفاعة الشافعين لدى السلطة الحاكمة، فعند ذلك تهون عنده الجريمة، ويستسهل الجناية، ويقدم على إراقة الدماء البريئة ظلماً وعدواناً.
إنّ قانون الكفّار السائد في البلاد الإسلامية لا يؤمن بالقصاص من القاتل، ويزعم القانون أنّ القصاص لا يحيي المقتول فلا فائدة في تكرار القتل، فوضعوا السجون والأعمال الشاقّة عقوبة للقاتل، ومع ذلك تجد السجون في العالم مليئة بالمجرمين المرتكبين لجريمة القتل، وتجد جرائم القتل في التزايد والتكاثر في كل زمان وكل مكان.
والعجب أنّ الله تعالى يخاطب العقلاء بقوله: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) ويعقبه بجملة: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يخاطب الله تعالى العقلاء الذين يفهمون ويعقلون أنّ القصاص أحسن رادع وأقوى مانع عن القتل، والقصاص أفضل وأحسن من السجن والتعذيب وما شابه ذلك.
ولكنّ القانون الإلهي أصبح مهجوراً متروكاً، والقانون الغربي هو القانون المفضّل على أحكام الله تعالى، وبذلك فلتقرّ عيون المسلمين.
وكيف يرجو المسلمون لأنفسهم السيادة والعزّة والاستقلال وهم أذناب وأتباع لليهود والنصارى في أحكامهم وقوانينهم، بل وحتى في تاريخهم، فالتاريخ الهجري الإسلامي صار نسياً منسيّاً، والتاريخ الميلادي هو المعروف المتّبع في البلاد الإسلامية حكومات وشعوباً.
هذا والكلام طويل يحتاج إلى مجال أوسع وتفصيل أكثر، وبعد ذلك ما الفائدة في بثّ هذه الآلام والمآسي؟ فهل يحصل تغيير في الأنظمة الحكومية والقوانين المستوردة عندهم؟ لا أظن ذلك!!
(والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة) وفي نسخة: (بالنذور) النذر هو المعاهدة مع الله تعالى على فعل من الأفعال، فالوفاء بالنذر يعتبر وفاء بالمعاهدة كما قال تعالى: (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) والإنسان يجعل نفسه في معرض المغفرة عن طريق النذر والوفاء بالنذر.
(وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس) أوجب الله تعالى على البائع والمشتري أن يراعيا حقوق الناس، وأن لا يبخسا الناس أشياءهم، وأن يعاملا الناس بالأمانة والعدالة، لا بالظلم والخيانة؛ وذلك بعدم التلاعب في المكيال الذي يكال به الشيء من طعام وغيره، أو الميزان الذي يوزن به الشيء.
(والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس) وفي نسخة: (والانتهاء عن شرب الخمور) لقد ذكرنا حول آية التطهير معاني عديدة للرجس، والخمر تعتبر من أفراد الرجس ومصاديقه كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمـَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقد كتب الكثير من المسلمين وغيرهم كتباً ومقالات حول أضرار الخمر، والجرائم المتولّدة منها، والويلات التي تتكوّن منها، ونكتفي - هنا - أن نقول: بعد مراجعة معاني الرجس يتضح لك جانب كبير من مضار الخمرة من الناحية الصحيّة والعقلية والاجتماعية وغير ذلك.
(واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) وفي نسخة: (واجتناب قذف المحصنات) إنّ الإسلام هو الدين الذي يحافظ على كرامات الناس، ويعتبر الإسلام المسّ بالكرامة نوعاً من أنواع الجريمة، وقد جعل لهذه الجريمة عقوبة دنيوية، وعذاباً في الآخرة.
إنّ إسناد الفجور إلى أهل العفّة والشرف من رجال أو نساء ليس بالشيء الهيّن، ولا يسمح الإسلام أن يطلق الإنسان لسانه لهدر كرامة الناس، وهتك أعراضهم ونواميسهم.
وإذا نسب الإنسان نوعاً من أنواع الفجور إلى ما ليس معروفاً بالفجور فلا بد من إثبات ذلك بإقامة البينة والشهود، فإن عجز عن ذلك فسوف ينفذ في حقّه قانون العقوبات.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (16).
وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (17).
وهنا يتضح معنى كلامها (عليها السلام): (واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) أي الذي يجتنب قذف الناس: أي إسناد الفجور إليهم، فهو محجوب عن اللعنة ومعنى اللعنة: البعد عن رحمة الله تعالى.
(وترك السرقة إيجاباً للعفّة) وفي نسخة: (ومجانبة السرقة) إنّ اليد تعتبر ثمينة غالية ما دامت أمينة عفيفة، فإذا سرقت فقد خانت فصارت رخيصة لا كرامة لها؛ لأنّها تجاوزت الحدود.
سأل أبو العلاء المعرّي من السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه):
يدٌ بخمس مئينٍ عسجدٍ أوديت
ما بالها قُطعت في ربع دينار؟
أي أنّ اليد التي ديتُها خمسمائة دينار ذهب، لماذا تُقطع إذا سرقت شيئاً قيمته ربع دينار؟
فأجابه السيد المرتضى قائلاً:
عِزّ الأمانة أغلاها، وأرخصها
ذلُّ الخيانة، فافهم حكمةَ الباري
إذن فالسرقة تسلب العفّة من اليد، أي صاحب اليد، وترك السرقة يوجب بقاء العفّة والأمانة.
وفي كتاب (كشف الغمّة) بعد قولها (عليها السلام): (ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة) هكذا: (والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستئثار بفيئهم إجازة من الظلم. والعدل في الأحكام إيناساً للرعية) اليتيم هو الذي فقد أحد أبويه أو كليهما وهو صغير، ويرثهما في التركة، ونظراً لصغر سنّه لا يستطيع المحافظة على أمواله وتدبير أُموره، وهنا يطمع في أمواله ذوو الأطماع لأنّهم استضعفوه، ولم يجدوا فيه القوّة والقدرة على المقاومة، فهناك الظلم الواضح والاعتداء البغيض، ولكنّ الله تعالى قد قدّر مصير هؤلاء الظالمين وجزاءهم في الآخرة، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) فجعل الله الاجتناب عن أكل أموال اليتامى حفظاً من الوقوع في الظلم الذي هذا جزاؤه وعقابه.
وأمّا جملة: (والاستئثار بفيئهم) فالمقصود من الفيء - هنا -: الغنيمة، أي خمس الغنائم أو ما أفاء الله على رسوله، وقد تقدّم الكلام حول ذلك في مدخل الخطبة والآيات الواردة حول فدك.
(وعدل الحكّام إيناساً للرعيّة) لقد تقدّم في كلامها (عليها السلام) شيء حول العدل بصورة عامّة كالعدل بين الزوجات وبين الأولاد وبين الناس، وهنا تشير في كلامها إلى عدل الحكام، والمقصود من الحكّام - هنا - السلطة الحاكمة من الملك إلى الوزراء إلى الأُمراء إلى رؤساء الدوائر والمحافظين والقضاة والحاكمين، وأمثالهم من ذوي السلطة والقدرة.
ومن الطبيعي: أنّ أصحاب المناصب الخطيرة يشعرون أو يتصوّرون بهالةٍ من الكبرياء تحيط بهم، وعلى هذا الأساس يرون أنفسهم أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأرفع مستوى من غيرهم.
وأفراد الرعيّة يشعرون بشيء من البعد الواسع والبون الشاسع بينهم وبين الطبقة الحاكمة، فلا يسمح لكل أحد أن يلتقي برئيس الدولة، أو يقابل موظفاً كبيراً، وخاصّة إذا كان صاحب حاجة، وعلى الأخص إذا اعتدى عليه بعض الموظّفين، وهذا يسبّب التنافر بين الحكومة وبين الشعب، وبين جهاز الحكومة والمواطنين.
ولكن إذا سار الحكّام على طريقة العدالة والمحافظة على حقوق الضعفاء؛ تجد أنّ روح الأمل قد تولّدت في نفس المظلوم، بل في نفوس أفراد الرعيّة، وينظر الإنسان من أفراد الشعب إلى جهاز الحكم كما ينظر الولد إلى أبيه، وكما ينظر الطالب إلى المعلّم، وكما ينظر المريض إلى الطبيب والممرّض من حيث المحبّة والتقدير، وبهذا يحصل الاستئناس بين أفراد الشعب وبين الطبقة الحاكمة، ويحصل التعاون والإخاء والأُلفة والمحبّة وهكذا وهلمّ جرّاً.
ولولا رعاية أُسلوب الكتاب لطال بنا الكلام حول هذا الموضوع الذي يشعر به أكثر الناس، وتتلهّف إليه النفوس.
(وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية) لأن الشرك نوع من الكفر، والواجب على العباد أن يعبدوا الله مخلصين له الدين.
ثم أنها ختمت هذا الفصل من كلامها بآيات مناسبة للموضوع، وهي قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنّه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
اضف تعليق