من يبحث عن السعادة والحب والاستقرار النفسي ما عليه إلا يقترب من هذه السيرة، ويقرّب حياته منها ايضاً من خلال تكريس الحب والولاء لهذه السيدة العظيمة، "فالمحب يندفع شعورياً او لا شعورياً وبإيحاءات من الوعي الباطن نحو التأسّي بمن أحب، او حسب تعبير علماء النفس؛ تقمص شخصية المحبوب...
حياة زوجية رائعة، وأسرة سعيدة بكل المعايير، تلك التي كانت لدى بنت رسول الله، الصديقة فاطمة الزهراء، وهي ابنة التسع سنوات مثلها، مثل أية فتاة في هذا العمر تستشعر النضج والحيوية والاندفاع، ثم الحماس لاستنشاق السعادة المنبعثة من العاطفة و الودّ.
نعم؛ كان لجبرائيل، ولفاكهة الجنة، الدور المباشر في تكوّن لحم وعظم فاطمة في أحشاء أمها خديجة، بيد أنها كانت كأية فتاة قرشية في مكة من حيث الظاهر، ولم تكن من جنس الملائكة، وقد عالج القرآن الكريم منذ البداية هواجس دعاة الغلو في التقديس عندما بيّن أن الانبياء والمرسلين من قبل الله –تعالى- إنما هم من البشر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}.
كانت، سلام الله عليها، تكنس الدار، وتطبخ الطعام، وتغسل الملابس، وهي أعمال نساء اليوم –البعض طبعاً؛ وليس جميعهنّ- بيد أن الزهراء كانت تقوم بأعمال أخرى يصعب تصورها اليوم، مثل؛ غزل الصوف، أي تحويل صوف الخراف الى خيوط لاستخدامات مختلفة آنذاك، و أعتقد جزماً أن التاريخ القاصر عجز عن الإحاطة بكل ما كانت تقوم به الزهراء في حياتها اليومية، إن داخل بيتها، أو في تعاملها مع ابناء جنسها، ومع الجيران، وحتى مع افراد أسرتها.
عاشت حياة الكفاف والعفاف والبساطة، ولكن لم تكن فقيرة مطلقاً، وكذا الحال زوجها أمير المؤمنين، يكفي أن نتذكر أنها لفترة طويلة كانت تمتلك أرض فدك الزراعية الغنية بالموارد المالية، ربما لو كان لواحدة من نساء اليوم جزءاً بسيطاً منها لاشترت السيارة الفارهة والقصر المنيف وأشكال المجوهرات والمقتنيات، ولكانت تحمل راية الشهرة والتسيّد على الآخرين في كل مكان، بيد أن الباحثين؛ من الشيعة وغيرهم، يجمعون على أن هذه المرأة العظيمة صنعت العظمة والسعادة من حياتها البسيطة وغير المكلفة.
تُرى، مع كل هذه الاوصاف، ما الذي يمنع المرأة اليوم من الاقتداء بالصديقة الزهراء في كل ما أوصلتها الى السعادة في الحياة؟
إن سألت أي امرأة مسلمة في أي مكان بالعالم، حتى وإن كانت غير محجبة، ولا تلتزم بالفرائض الدينية، عن شخصية الصديقة الزهراء، سيأتيك الجواب؛ أنها –على الاقل- أيقونة الأخلاق والعفاف والشجاعة والصبر، كونها ابنة رسول الله، أما اذا سألت عن معايير السعادة لديك، وهل يمكن ان تلمسيها في حياة هذه الشخصية التي تمدحينها؟ هنا يأتي الجواب مختلف بعض الشيء، لأن معايير السعادة اليوم غير التي كانت لدى فاطمة في تلك الفترة، فما قدمته لنا، عليه السلام، من معايير وموازين نزن بها السعادة، تفيد المرأة في تلك الفترة والى يومنا هذا، والى يوم القيامة، لأنها تأخذ ترتكز على القيم الأخلاقية والدينية، والمشاعر الانسانية، وليس على المظاهر المتغيرة التي تنتجها الرغبات النفسية والمصالح الشخصية للبشر.
مثلاً؛ أن تختار المرأة أي عمل او مهنة تهواها، يمثل مصدر ارتياح، وشعور بالسعادة والفخر بينها وبين نفسها، وبينها وبين الآخرين بأنها حققت طموحها وآمالها بالوصول الى ما تريد وترغب، وكذا الحال بالنسبة لمسألة استقلال المرأة اقتصادياً بامتلاكها مورد مالي خاص يفصلها عن المورد المالي لزوجها وحتى أبيها، يمكّنها من الخروج بكل فخر واعتزاز الى الاسواق والمطاعم لتشتري ما تُحب ويلبي رغباتها، وتأكل ما لذّ وطاب، وتفعل كل ما يحلو لها.
نحن جميعاً نحب فاطمة بنت رسول الله، ونعبر عنه في مظاهر مختلفة؛ من الفرح في ذكرى مولدها، والحزن في ذكرى استشهادها، والحضور في مجالس الذكر الخاصة بها، بل حتى ثمة من يقرأ ما كُتب عنها، وأكثر؛ من ينظم الشعر –من الرجال والنساء- في مدحها أو رثائها، بالمقابل هي أيضاً تحب جميع الناس؛ من ابناء جيلها و زمنها، والى هذا اليوم، والى يوم القيامة، فهي كالشمس سخية بما تضيء للناس طريق السعادة في هذه الحياة، إنما الذي يفصلنا عن هذه الشخصية العظيمة؛ المظاهر الخادعة والمغريات التي يتصور البعض أنها تصنع المرأة العصرية ذات التفكير الحديث، والتي تكون قادرة على تحقيق ما يريد.
إن الزهراء، سلام الله عليها، لم تُخلق لتجرع الأحزان الآلام، وحاشا الله –تعالى- أن يكلف الانسان ما لا طاقة له، إلا أن يكون جهاداً وقتلاً في سبيله، فما بالنا بامرأة هي من أزكى وأنقى وأطهر ما خلقه الله –تعالى- إنما الظلم والطغيان هو الذي وضعها في تلك المواقف التي سوّدت صفحات التاريخ، بل العكس؛ خلقت لتكون رمزاً للرقّة والعفاف، والأمومة، والتربية الحسنة، وللحياة الزوجية الناجحة، وإلا فانها كانت سعيدة الى جانب أولادها و زوجها أمير المؤمنين، وفي ظل أبيها رسول الله، وقد كتب الكثير عن قناعة فاطمة و رضاها بما قسمه الله لها، و زهدها، و كرمها.
فمن يبحث عن السعادة والحب والاستقرار النفسي ما عليه إلا يقترب من هذه السيرة، ويقرّب حياته منها ايضاً من خلال تكريس الحب والولاء لهذه السيدة العظيمة، "فالمحب يندفع شعورياً او لا شعورياً وبأيحاءات من الوعي الباطن نحو التأسّي بمن أحب، او حسب تعبير علماء النفس؛ "تقمص" شخصية المحبوب، وكلما ازداد الانسان حبّاً ازداد اتباعاً وولاءً وعطاءً، وكلما ترسخ الحب في أعماق كيانه وتجذر أكثر فأكثر، تأقلمت حياته وتحددت مسيرته على ضوء إشعاعات ذلك الحب، أكثر فأكثر". (شعاع من نور فاطمة- آية الله السيد مرتضى الشيرازي).
اضف تعليق