إن شجاعة المرأة في قول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، وهو من الجهاد الذي وصفه لنا رسول الله، والقوة والتمكين الحقيقي لها في عدم استضعافها، وإعطائها الفرصة للقيام بمهمتها الحضارية في حفظ وتقوية كيان المجتمع، كما تعلمنا العقيلة زينب، بالعفّة، والصبر، والعلم والمعرفة...
زوج وزوجة لهما ولدين بنين، ثم يُرزقهم الله –تعالى- بمولود انثى؛ فتاة نجلاء رقيقة مثل الورد، كم تكون الفرحة لهما وللولدين بأن تكون لهما أخت يكرمانها ويغدقان عليها حبّاً وحناناً؟
إنها لفرحة عارمة في بيت أمير المؤمنين عندما وضعت الصديقة الطاهرة مولودها الجديد (الثالث بعد الحسنين)، وهي أول بنت لهم.
شعّ سَنا الفرحة والبهجة خارج حدود البيت العلوي لتصل الى أسماع رسول الله بشارة هذه المولودة المباركة، فحثّ الخطى الى البيت الذي طهره الله من الرجس، ليحمل حفيدته الأولى بشغف لا يُحد، ويسميها زينب.
زينب عاشت ست سنوات!
كثيرٌ منّا يبحث عن السعادة في حياته بالمعنى الذي يفهمه هو، ويتطابق مع ظروفه الاجتماعية والنفسية، ربما يكون عند البعض؛ المال، والزواج الناجح، وفرصة العمل او الوظيفة اللائقة، مع القدرة على امتلاك ما يريح النفس والبدن من خدمات مثل السيارة والاثاث المنزلي، وما تجود علينا التقنية الحديثة من سيارات وأجهزة الكترونية، بينما هنالك من يبحث عن سعادته في مديات أبعد؛ الحرية، والأمان، والكرامة، لذا نسمع هنا وهناك من ابناء مجتمعنا بأن: "ماذا كسبنا مما عشناه من العمر؟! سوى المنغصات، والحرمان، والفقر، والقلق"، كما نسمع من آخرين يتحدثون عن "الزمن الجميل" الماضي بذكرياته التي توحي للبعض أنها جميلة مقارنة بالوضع البائس الموجود.
لو نطبق سنوات عمر العقيلة زينب على حدود تفكيرنا وتوقعاتنا في الحياة، سيكون عمرها الشريف ست سنوات فقط، وليس العمر المديد الذي ناهز السابعة والخمسين سنة، لأنها قضت السنوات الست بين أحضان أمها الصديقة الطاهرة، وبين أنامل أبيها أمير المؤمنين، وتتقلب بحب وشغف بين أخويها؛ الحسن والحسين، وقبل كل هؤلاء الأطياب؛ جدها رسول الله، الذي رأت منه الحنان والحب، كما رأت منه في الوقت نفسه؛ العزّ والرفعة للإسلام من خلال الانتصارات الباهرة في غزواته وحروبه ضد المشركين، وكانت تشهد انتشار نور الاسلام في ربوع الجزيرة العربية، وتحول المسلمين الى أمة يمدحها القرآن الكريم، وحضارة يعتد بها في التاريخ البشري.
السيدة زينب؛ ونحن نعيش هذه الايام ذكرى مولدها السعيد، تعطينا رسالة عامة، وهي للنساء خاصة، أن الحرية والأمان والكرامة، وحتى ما هو أدنى؛ من مأكل وملبس وفرصة عمل توفر لقمة العيش، وأن يكون الانسان "يروح بطريقه ويعود بنفس طريقه" كما هو التعبير السائد، كل ذلك لا يأتي بالمجان، وأن تكون اليد الحنون علينا من لحظة ولادتنا وتستمر حتى لحظة مماتنا، فهذه اليد تزول قطعاً يوماً ما، بفقد الوالدين، وبتحولات عديدة، وربما تتحول هذه اليد الى يد الظلم والاضطهاد وتكميم الأفواه، بل وحتى يد التلاعب بالعقول والقلوب، وهذا ما واجهته العقيلة زينب منذ اللحظات الاولى لغياب جدها المصطفى، صلى الله عليه وآله، فقد أخذت قسطاً من الحزن والأسى المطبق على أهل بيت الوحي، ليس لهذه الفاجعة فقط، وإنما للفواجع التي خلقتها الأمة بالتنكّر لوصية نبيها في حفظ حرمة ومنزلة أهل بيته، يكفي أن تتصور كل فتاة بعمر السادسة من العمر، كيف كان حال السيدة زينب وهي تشهد ما جرى على أمها وأبيها في ذلك الهجوم الارهابي على دارهم.
مضت خمسة وعشرين تقريباً عن إبعاد أمير المؤمنين عن الحياة السياسية حتى حانت لحظة استفاقة الأمة من غفوتها على الظلم وتضييع سنّة النبي، ونهب أموال المسلمين، ويتذكروا أمير المؤمنين ويطلبوا منه انقاذهم وانقاذ الأمة من الفراغ السياسي القاتل آنذاك، وبعد تولّي أبيها الأمر، كانت الاقدار قد عبّدت الطريق لعائلة أمير المؤمنين وأجهزة الحكم لديه لأن يتوجه الى الكوفة، ويودع المدينة المنورة الى الأبد، فدخلت زينب لأول مرة مدينة الكوفة التي توالى عليها الولاة والحكام، فوجدت أمامها "قصرة الإمارة" وما فيه من اقسام وأجنحة خاصة لتوفير الراحة والرفاهية للحاكم وأسرته، بيد أن أمير المؤمنين أشاح بوجهه عن هذا القصر الذي بُني بأموال المسلمين في وقت جوعهم وعُريّهم وحرمانهم، واختار لأهل بيته بيتاً متواضعاً تسكن فيه زينب والحسنان، عليهم السلام، مع ذلك تبقى هي ابنة الزعيم الأعلى وقائد الأمة، فهل كانت تحمل شيئاً من هذه الصفة كما نفكر به اليوم؟
ربما كانت هنالك سويعات قليلة للقاء أبيها طيلة فترة وجودها في الكوفة، فقد كان منهمكاً في مقاتلة الناكثين والقاسطين والمارقين نهاراً، وفي مناجاة ربه والتهجّد والتضرّع الى ربه ليلاً.
ثم حصل ما حصل ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة40 للهجرة، وبعدها ما جرى من تطورات وأحداث مخزية من افراد الأمة خلال الأيام القليلة من مبايعة الامام الحسن للخلافة، ومن ثم قضاء فترة العشرين سنة مع أخيها الحسن، وبعدها استشهاده؛ مع اخيها الحسين في ظل حكم معاوية الذي تسلّق منبر رسول الله بغباء الأمة وتفضيلها قيم الجاهلية، على قيم السماء التي ضحى من أجلها رسول الله واصحابه المجاهدين الأبرار.
لم تسترجع العقيلة زينب كثيراً أيام الصِبى في بيت الوحي وبين أحضان رسول الله، وأمير المؤمنين والصديقة الزهراء، ولم تأسف على الفترة القصيرة التي مضت سريعاً وهي ابنة قائد الامة وزعيهما في الكوفة، بقدر ما عادت الى المدينة وهي محملة بالتجارب والعِبر، فقد خبرت ما تكنّه نفوس افراد الأمة من نفاق و ازدواجية، كما تعرّفت مستوى إيمانهم وفهمهم للأمور لتكون جاهزة تماماً لمهمة عظيمة واستثنائية لم تسبقها امرأة في التاريخ، ولم تأت بمثلها في المستقبل، وترسم صورة كبيرة لبطلة في ميادين الصبر، وشجاعة قول الحق أمام السلطان الجائر، وبطلة ايضاً؛ في كبح جماح العاطفة الأنثوية وهي ترى أخيها الإمام الحسين وأبي الفضل العباس، وأبنائها، وأهل بيتها وقد قطعت ابدانهم السيوف.
التمكين الحقيقي للمرأة
لمن يبحث عن وسائل لـ "تمكين المرأة"، وأن تكون قوية ومقتدرة ومعززة وغيرها من المفردات الطاردة لمشاعر الضعف المزعجة! ما عليه سوى تصفح سيرة حياة العقيلة زينب، وتحديداً في الايام الاخيرة للاستعداد لواقعة الطف، فقد كانت لصيقة بأخيها الامام الحسين، لذا سمعت الحوار بينه، عليه السلام، وعبد الله بن العباس، الذي كان ممن دعاه للعدول عن التوجه الى الكوفة إشفاقاً منه ومنهم عليه، مذكرين بسوابق أهل الكوفة مع أخيه وأبيه، كما لو أنه، عليه السلام، قد نسي كل هذا!
واجهت ابن عباس –وهو ابن عمّها- برد صاعق على ما يريده من الإمام الحسين: "يا بن عباس! تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا ها هنا ويمضي وحده؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره".
المستوى العلمي والثقافي كان مدمجاً مع منزلتها الاجتماعية والروحية بين أهل بيتها وبين أفراد الأمة، فهي "العالمة غير المُعلَمة والفَهِمة غير المُفهّمة"، عندما وصفها الإمام زين العابدين، عليه السلام، وعندما كانت تدخل على أخيها الحسين، وهو يتلو القرآن الكريم، كان ينهض من مكانه إجلاله لها، وكانت مصدراً علمياً ومعرفياً لبني جنسها ممن كانت تقصدها للسؤال عن الاحكام الدينية والمسائل الاجتماعية، وفوق كل هذا لم تشتهر بالخروج الى الطرقات والتنقّل بين البيوت، فقد وردت الروايات التاريخية أن جيران أمير المؤمنين لسنوات طويلة لم يرَو شخص السيدة زينب حتى لمرة واحدة، وأن أبيها عندما كان يروم اصطحاب أولاده لزيارة مرقد جدهم المصطفى كان يجعل ابنته بين الحسين والحسين، وعندما يصل الى المرقد الشريف كان يُطفئ السراج لئلا يرى أحدٌ شخص ابنته رغم أنها كانت مغطاة من رأسها الى أخمص قدمها.
أي امرأة من هذا النوع يفترض أنها لا تقوى على التكلم اذا ما تكلم معها رجلاً من الجيران، فضلاً عما اذا حصل شيئاً من الشجار او الخلاف مع الجيران او سكان الحي، فلابد من انتظار الزوج او الأب، وخلال هذه الفترة ربما تحصل تجاوزات على هذه المرأة، ولكن! الأمر يختلف تماماً عند عقيلة بني هاشم، فقد كانت أميرة في عهد أبيها وإخوتها، وكانت أميرة ايضاً بعد واقعة كربلاء رغم إرادة الأمويين بأن تكون أسيرة.
من أين جاءت العقيلة بهذه المِكنة والثقة العالية بالنفس؟
إنه الإيمان بالله –تعالى- فمنه تنبع الإرادة، ومنه تشتدّ العزيمة بما لا يثنيها او يُقهرها شيء، وإلا كيف بأخت تقف عند جثمان أخيها المقتول وتضع يديها تحته كما لو أنها ترفعه الى السماء قائلة: "اللهم تقبل هذا القربان من آل محمد"، فلا أروع من هذا المشهد لإيمان عميق وراسخ، و رضىً جميل مثل صبرها بقضاء الله وقدره في مسيرة حياة أهل البيت.
هذا الإيمان هو الذي جعل العقيلة زينب تقف أمام طغاة دمويين مستهترين بالأرواح والحرمات وتلقمهم الحجر بقوة منطقها وبلاغتها التي ذكرت الناس ببلاغة أبيها أمير المؤمنين، فأين هذه المواقف البطولية والخطابات اللاهبة في مجلس ابن زياد، وفي مجلس يزيد، من تلك الفتاة والمرأة المصونة خلف الجدران، ربما طوال خمسين عاماً؟
إن شجاعة المرأة في قول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، وهو من الجهاد الذي وصفه لنا رسول الله، والقوة والتمكين الحقيقي لها في عدم استضعافها، وإعطائها الفرصة للقيام بمهمتها الحضارية في حفظ وتقوية كيان المجتمع، كما تعلمنا العقيلة زينب، بالعفّة، والصبر، والعلم والمعرفة.
اضف تعليق