قبل أن نفكر بالجمع بين ما نريد وما يريد منّا الأئمة الاطهار، حريّ بنا أن نجمع بين الأخلاق والسلوك الحسن، وبين الايمان والولاء بأئمة أهل البيت كما أوصى بهذا الامام العسكري في إحدى رسائله لشيعته: بأن "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة...
"علامات المؤمن خمس: تعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وصلاة واحد وخمسين، والتختم باليمين، وزيارة الأربعين".
الإمام الحسن العسكري، عليه السلام.
لم ينس العباسيون مطلقاً أن الإمام الحسن العسكري الموجود في مدينة جدّه المصطفى، محمد، صلى الله عليه وآله، هو الإمام الحادي عشر من أئمة الهدى الموصى بهم من قبل رسول الله، وأن سلسلة الإمامة ستنتهي بعد فترة قصيرة، وتنقطع العلاقة المباشرة مع الشيعة الى يوم القيامة، فكرروا تجربة الإقامة الجبرية للإمام علي الهادي مع الإمام الحسن العسكري باستدعائه من المدينة المنورة الى سامراء التي تحولت من حامية عسكرية يجتمع فيها الجنود والقادة الاتراك، الى عاصمة للحكم العباسي، وتمّ تشديد الاجراءات التعسفية ضد الإمام أكثر مما عانى منه الامام الهادي، عليهما السلام، في محاولة لعرقلة عملية البناء الثقافي لأفراد الأمة بشكل عام، ولأبناء الشيعة بشكل خاص في ذلك الزمان، فجاء الرد سريعاً واستباقياً بتحديد ملامح الإيمان بما يؤهل صاحبه ليكون مؤمناً حقيقياً ملتزماً بمنهج أهل بيت رسول الله.
إجراء تنظيمي حازم
قبل الحديث عن الأجراء الابتكاري الجديد من قبل الإمام الحسن العسكري لتوثيق العلاقة مع شيعته، نشير الى حقيقة اجتماعية وسياسية آنذاك شكلت نقطة الضعف الكبرى في الأمة، وهي؛ انصياعهم للسلطة الحاكمة من خلال ربطهم بميثاق البيعة للحاكم الذي كان يُعد آنذاك خليفة رسول الله، ولم تكن الامة تعرف –الغالبية العظمى- أن عليها مبايعة الامام المعصوم المنصوص عليه من قبل رسول الله، على أنه الخليفة و ولي أمر المسلمين، وإن لم يكن حاكماً سياسياً، والاستماع اليه والأخذ منه ما يتعلق بدينهم ودنياهم، بل كان عامة المسلمين يرون في الحكام العباسيين أنهم مصدر التشريع ومصدر القرارات السياسية في آن.
عالج الإمام العسكري هذه المشكلة بهدوء بكتابة الرسائل الخاصة الى الفقهاء والعلماء في أنحاء البلاد الاسلامية بما كان يُعرف بالتوقيعات المتضمنة توجيهات و وصايا للأمة يعرفهم فيها على مبادئ عقيدتهم ومنها؛ الإمامة، ومواصفاتها، ومن هو الإمام المفترض الطاعة، وأهمها وأبرزها أن لا يكون ظالماً وفق ما جاء في الحوار بين نبي الله ابراهيم، ورب العزّة الوارد في القرآن الكريم: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. فكتب الامام الى النخبة من شيعته منهم؛ اسحاق بن اسماعيل النيسابوري، وابراهيم بن عبدة، ومحمد بن موسى النيسابوري، وابن بابويه القمي.
ومن روائع ما كتبه الامام العسكري الى زعيم الشيعة في قم آنذاك؛ أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي، أن "أوصيك يا شيخي، ومعتمدي، وفقيهي أبا الحسن علي بن الحسين القمي بتقوى الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فانه لا تقبل الصلاة من مانع الزكاة".
واشتملت الرسالة على جوانب عقدية وأخرى اخلاقية بأن "أوصيك بمغفرة الذنب، كظم الغيظ، وصلة الرحم، ومواساة الاخوان، والسعي في حوائجهم في العسر واليسر، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمور، والتعاهد للقرآن، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". (سيرة أهل البيت تجليات للإنسانية- حسن عباس نصر الله).
هذه الرسالة وأمثالها تمثل مناهج عمل للقيادة الوسطية (العلماء والفقهاء والشريحة المثقفة)، أولاً؛ ثم لعامة الشيعة وأفراد الامة، وفائدة التوقيع أنه يوثق كلام الإمام المعصوم المفترض الطاعة، كما يمثل وثيقة عقدية لنا وللأجيال القادمة.
الحبّ أم الإيمان
لم يكن الامام العسكري أول من يطلق مصطلح "المؤمن" ليميز به عن الانسان غير المؤمن من افراد الأمة، فقد كانت البداية من القرآن الكريم عندما وجهت السماء بالحرص على التراتبية في الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه وبالمعاد، فالايمان مفردة جميلة تضفي على صاحبها الكمال الروحي والاطئمنان النفسي بأنه بخير في ظل الإسلام، {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم}، فجاء الجزم بعدم دخول الايمان في بعض القلوب غير المتوفرة على الشروط اللازمة، بمعنى أن الامة تحتاج لفترة طويلة تخللتها حياة الأئمة الاربعة عشر لتتبلور عندها هذه الشروط، الى درجة ناصعة تجعلها تبحث هي عن هذه الشروط وتضحي بكل شيء للتحلّي بهذه الشروط والمواصفات كما فعل التابعين المخلصين للأئمة الاطهار خلال خوضهم الصراع مع أئمة الضلال وحكام الجور، ولعل في مقدمتهم أصحاب الامام الحسين، عليه السلام.
في حياة الامام الحسن العسكري كانت ثقافة الولاء في الامة على شكل "الحب"، فقد كانت الغالبية العظمى من الناس طيلة قرنين ونيف من الزمن من حياة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، تكنّ الحب لهم، وتحترم شخصياتهم، وتأخذ بكلامهم، بمن فيهم الحكام، كما لو كانوا حكماء وعلماء، لا شأن لهم سوى القول الحسن، وطيب المعشر، أما أن يؤمنوا بكونهم مفترضي الطاعة، وأن قولهم وإقرارهم وسيرتهم حجة عليهم أمام الله –تعالى- فهذا أمر آخر، وهذا ما كان يسعى الأئمة لتقويمه في فكر وثقافة الناس، فكانوا يحذرون من التصوّف والدروشة وبعض الممارسات المائعة، والمظاهر القشرية البعيدة كل البعد عن الإيمان الحقيقي الذي يدعو اليه الله –تعالى- في كتابه المجيد.
وهذا يبين لنا حجم المهمة وأبعادها وظروفها التي تولاها الامام العسكري في حياته، مع العلم بأنه لم يعش سوى ثمانية وعشرين سنة، أي طالته أيدي الغدر وهو في ريعان الشباب، فراح يختزل الزمن للتفريق بين الشيعي والمُحب، عندما أدعى أحد الاشخاص أنه من شعية أهل البيت، قال: لا؛ ليس من شيعتنا إنما هو من موالينا ومحبينا.
ولما سُئل عن الفرق؟ أجاب، عليه السلام: "الفرق أن شيعتنا هم الذين يتبعون آثارنا، ويطيعوننا في جميع أوامرنا ونواهينا، فأولئك من شيعتنا، أما من خالفنا في كثير مما فرض الله مع حبهم لنا فهم من موالينا ومحبينا، وليسوا من شعيتنا".
مع هذا التحديد الدقيق لا يبقى لأحد عذراً بعدم معرفة الحق، ولا يستقر تبرير بإمكانية الجمع رغباته ومصالحه، و اتباع منهج أهل البيت، فاذا كانت الأولوية للثاني فان مجمل حياة الانسان ستكون من وحي هذا المنهج الرباني.
وقبل أن نفكر بالجمع بين ما نريد وما يريد منّا الأئمة الاطهار، حريّ بنا أن نجمع بين الأخلاق والسلوك الحسن، وبين الايمان والولاء بأئمة أهل البيت كما أوصى بهذا الامام العسكري في إحدى رسائله لشيعته: بأن "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، فان الرجل منكم اذا وَرَع في دينه، وصَدَق في حديثه، وأدى الامانة، وحسّن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسرّني ذلك".
اضف تعليق