كادت أن تقع المواجهة بين بني هاشم وبني أمية لولا قرار الإمام الحسين، عليه السلام، بتغيير المسير الى البقيع حيث المثوى الأخير لهذا الإمام المظلوم والعظيم الذي أهدى الأمة السلام والأمن وحقن الدماء في حياته، ثم رشقوه بالسهام وهو ميت في جنازته! حقاً إنها لمفارقة عجيبة تصنعها هذه الأمة بجهلها وتنكّرها للصالحين والاخيار...
لمن يراجع التاريخ السياسي الحديث يجد ثمة معادلة تحكم العلاقات بين دول العالم تقضي بأن تكون الحرب قاعدة لصنع السلام والأمن في هذه العلاقات، بينما الشعوب تكون وقوداً طويلة الأمد لتلكم الحروب التي تشتعل لاسباب تافهة غير منطقية ثم تنتهي بحلول سياسية –دبلوماسية، ما عدا الحربين العالميتين؛ الاولى والثانية، لحاجة القوى الغربية الى انتصار عسكري يعيد لهم ترتيب مناطق النفوذ والهيمنة في العالم، وهذا يفسّر عدم وجود آثار ايجابية حقيقية لهذا السلم والأمن المتمخّض من هذه الحروب على مستقبل العلاقات بين الدول لأن الجروح الغائرة للحروب ليست في ابدان الساسة والدبلوماسيين، بقدر ما هي في أبدان وأرواح الشعوب التي عليها التعايش مع واقع اجتماعي جديد مشحون بالارامل والايتام، وواقع اقتصادي جاثم في مستنقع التخلف والتبعية، مع كم هائل من المشاعر السلبية إزاء كل شيء في الحياة.
حقن الدماء خدمةً للانسانية
كلما مررنا بذكرى استشهاد الامام الحسن المجتبى، سلام الله عليه، تستثيرنا معاهدة الصلح او الهدنة -باختلاف المسمّيات لدى المؤرخين والكتاب- لأن ننظر الى هذه التجربة الفريدة والباهرة في عالم السياسية منذ القرن السابع الميلادي، فقد صنع الامام الحسن، السلام في رحم المجتمع والأمة، ولم يصوغه من نار الحرب التي طالما تحفّز لها الأمويون المتمرسون على القتال والحرب مذ كانوا في الجاهلية، وعلى رأسهم؛ معاوية الذي استرخص دماء آلاف المسلمين ليبقى ملكه في الشام منذ ولاه عليها عمر بن الخطاب، ثم حولها على عاصمة للدولة الأموية.
كان الامام الحسن، عليه السلام، يقاتل الفئة الباغية على خطى أبيه، أمير المؤمنين، هذا لا ريب فيه، إنما الاختبار في التطبيق العملي من قبل افراد الأمة التي يجب ان تكون بمستوى المسؤولية الحضارية، وتقدّر وجود نعمة القائد النزيه، والامام المعصوم والمسدد من قبل الله –تعالى- ليواصلوا خطوات من سبقهم في جيش أمير المؤمنين المعسكر في النخيلة في آخر قرار "إعادة انتشار" اتخذها، عليه السلام، قبل اغتياله بأيام لتنفيذ هجوم جديد بخطة عسكرية جديدة ضد جيش معاوية.
وكما هو واضح فان هذا الجيش كان يضمّ –الى جانب المؤمنين المخلصين- شرائح مجتمعية ورثت الازدواجية، والانتهازية، والنفاق منذ حقبة الحكام الثلاث طيلة حوالي خمسة وعشرين سنة بعد وفاة الرسول الأكرم، لذا كان من الصعب تكوين جيش يليق بقيادة رسالية عظيمة مثل قيادة أمير المؤمنين، او قيادة الامام الحسن، وقد صنّف المؤرخون مجتمع الامام الحسن بأن فيه المؤمن، وفيه أصحاب المطامع والغنائم، كما فيه المشككون وضعيفي الايمان، وايضاً؛ هنالك الخوارج الذين يسعون لقتال معاوية لا من منطلق ايماني، وإنما؛ متزمت ومتطرف، وموقفهم في مسألة التحكيم معروفة للجميع. كما هنالك ايضاً من يقدّس الانتماء القبلي قبل الديني، فهم يقاتلون الى جانب أمير المؤمنين، ثم الى الامام الحسن طاعة لمشايخهم ورؤساء قبائلهم.
هذه التشكيلة الغريبة وغير المتجانسة كانت من السهولة بمكان تمزيقها بدراهم معدودة من معاوية، وهي الحقيقة التي كان يدركها جيداً الامام الحسن، فأراد معالجة المشكلة المالية أولاً؛ قبل التفكير بالانتصار على معاوية عسكرياً، فقرر، عليه السلام، ترميم الحالة المعيشية لافراد جيشه بأن ضاعف العطاء لهم (الرواتب) بنسبة الضعف، وهو أمر مُحدث وجديد في الدولة الاسلامية، كما يصفه ابو الفرج الاصفهاني في "مقاتل الطالبيين"، حتى لا يدع حجةً لمن سوّلت نفسه فيما بعد الانتقال الى معسكر الباطل بدعوى الحاجة المالية.
ولكن! حسبنا منسوب الإيمان في النفوس، وضحالة الوعي الديني وسطحيته، لاسيما في جماعة الخوارج الذين ما برحوا متشبثين بالتكفير لمن لا يروق لهم، علماً أن عدد افراد جيش الإمام الحسن خلال المواجهة كان مهولاً، ونأتي على ذكره، بيد أنه "غثاء كغثاء السيل"، حسب وصف الرسول الأكرم لكثرة المسلمين الفاقدين للأهلية.
وحصل ما حصل من إغراء معاوية لعبيد الله بن العباس، وهو القائد الأعلى في جيش الإمام، وقد وضع الامام ثقته فيه بإرساله "اثني عشر ألفاً من فرسان العرب و قراء المصر"، و أوصاه بما لا يُقرن من البلاغة والحنكة العسكرية والحكمة القيادية بأن "ألِن لهم جنابك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وادنهم من مجلسك؛ فانهم بقية ثقة أمير المؤمنين..."، بيد أن بريق المليون درهم كانت أقوى لدى هذا القائد المهزوز من ثقة الامام الحسن به، والمنزلة الراقية التي حضاها إياه، كما فعل من قبل أمير المؤمنين به وباثنين من اخوته؛ عبد الله، والقثم، فقد ولّى الاخير على البصرة، و ولّى عبيد الله على اليمن التي هرب منها مسجلاً موقفاً جباناً في الصفحات السوداء من التاريخ تاركاً ورائه ابنيه ليذبحهما بُسر بن أرطأة في حادثة معروفة، فحتى هذه الحادثة لم تشدّ من عزيمة هذا الانسان للنيل من معاوية وأعوانه، والأخذ بثأر ولديه على الأقل.
وكما فعل معاوية مع عبيد الله بن العباس، كرر التجربة مع رؤساء القبائل في جيش الامام الحسن، وأشاع في جيش الامام بأنه لا يريد الحرب، بل الصلح، "وهذا الحسن قد صالح، فعلام تقتلون انفسكم"!
وفي مقابل الشريحة الانتهازية والنفعية، كان الخوارج المظهرين للتديّن، يمثلون ثغرة خطيرة أخرى في معسكر الامام الحسن، إذ كانوا يريدون القتال مع معاوية دون النظر الى العواقب، فحتى لو قتل الآلاف ولم يحققوا النصر، لا يهم عندهم! لان شعارهم "لا حكم إلا لله"، فبعد ان طعنه أقرب المقربين اليه من بني عمه (العباس)، جاءت الطعنة الاخرى في بدنه وفخذه، عليه السلام، على يد أحد أولئك التكفيريين في الحادثة المعروفة بعد أن عرفوا أنه يريد اعتزال الحرب بسبب خذلان افراد جيشه.
هنا لابد من القول أن جميع افراد جيش الامام الحسن لم ينتقل الى معسكر معاوية، إنما هشاشة الإيمان والجبن والخذلان كان يجعلهم مثل كومة قش تحترق بعود ثقاب واحدة، ولذا عندما عوتب الامام الحسن بقبوله الصلح من قبل سفيان بن الليل الذي تجرأ على الإمام بالقول: "السلام عليك يا مذلّ المؤمنين"، وقال ايضاً للإمام: "أذللت رقابنا حين أعطيت هذه الطاغية البيعة، ومعك مائة ألف سيف كلهم يموتون دونك"، وقد ردّ الامام على هذا الكلام غير المسؤول من انسان لا يرى إلا نفسه: "لست بمذلّ المؤمنين، ولكني كرهت أن اقتلكم على المُلك"، كما واجه لوم آخرين حول قرار الهدنة بأن "إني لما رأيت الناس تركوا ذلك إلا أهله خشيت أن يُجتثوا عن وجه الأرض".
كان قرار الهدنة (الصلح) ذا طابع اجتماعي وحضاري، اكثر منه سياسي وعسكري، فقد اراد الإمام الحسن وضع الأمة بأجمعها أمام الأمر الواقع الذي صنعته هي بنفسها لنفسها، بينما هو صنع لهم سلاماً لم يشهد التاريخ نظيراً له، يضمن فيه حياة الناس قبل أن يضربوا بسيف، او تسقط من أحد قطرة دم واحدة، وفي الوقت نفسه يفضح بهذا السلام (الصلح) أعداء الأمة ويكشف حقيقة نواياهم، وأبرزها؛ الرغبة الجامحة والدائمة الى العنف وإراقة الدماء، كما أثبت ذلك معاوية للأمة في السنوات العشر التي قضاها الامام الحسن في المدينة في ظل حكم معاوية، فقتل خيرة الإصحاب والرجال الصالحين أمثال حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وآخرين.
السلام حتى شفير القبر
لم يتمكن معاوية من الصبر على مرارة الهزيمة المعنوية أمام الامة، فهو الحاكم الباغي بلا قيم ولا مبادئ، يحكم بالترغيب والترهيب، فلا يحبه أحد مطلقاً، كما أفصح هو بنفسه خلال استقباله أحد المقربين من أمير المؤمنين، وبين له صفاته وأحواله، فتأثر معاوية –كما تقول الروايات التاريخية- وتوجه الى جلسائه بأن "هل يحزن أحدكم عليّ اذا متّ كما يحزن هذا على صاحبه"؟!
بالمقابل كان يرى ويسمع التفاف الناس حول الامام الحسن وأخيه الحسين، عليهما السلام، وهما يبثان الى الأمة قيم العدل والسلام، وينشرون الثقافة الرسالية امتداداً لسيرة جدهم رسول الله، فوجد نفسه أمام القرار الوحيد الذي يلجأ اليه دائماً للتخلص من خصومه في الساحة، وهو الاغتيال بالسمّ، وبشكل هادئ لا يثير الزوبعة في الاوساط الاجتماعية، وكانت الوسيلة للتنفيذ؛ المال، مرة اخرى، وعلى يد زوجة الامام الخائنة من نسل النفاق والازدواجية التي ورثتها من أبيها الاشعث الكندي الذي كان في صفوف جيش أمير المؤمنين.
حُمل جثمان الامام الحسن، عليه السلام، على أكتاف فتية بني هاشم، يتقدمهم الامام الحسين، عليه السلام، وأخيه ابي الفضل العباس، وأبناء عمومته واخوته، متوجهين على مرقد النبي الأكرم ليكون مثواه الأخير الى جانب جدّه المصطفى، "فظهرت حسيكة النفاق ونطق كاظم الغاوين"، فصاحت تلك المرأة: "ما لي ولكم! تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب"! و تُجمع الروايات التاريخية أن هذه الصيحة جاءت استجابة لتحرك أموي سريع للحؤول دون دفن الامام الحسن الى جانب جدّه، "فيما يدفن عثمان في أقصى المدينة، لا يكون ذلك ابداً وأنا أحمل السيف"، هكذا قالها مروان بن الحكم صراحة، وعندما اقترب موكب التشييع من الحرم النبوي الشريف، تجرأ الأمويون على رشق الجنازة بالسهام فأصاب بعض السهام جنازة الإمام الحسن، وكادت أن تقع المواجهة بين بني هاشم وبني أمية لولا قرار الإمام الحسين، عليه السلام، بتغيير المسير الى البقيع حيث المثوى الأخير لهذا الإمام المظلوم والعظيم الذي أهدى الأمة السلام والأمن وحقن الدماء في حياته، ثم رشقوه بالسهام وهو ميت في جنازته! حقاً إنها لمفارقة عجيبة تصنعها هذه الأمة بجهلها وتنكّرها للصالحين والاخيار.
اضف تعليق