من الأخلاقيات والقيم التي زرعها الإمام (ع) في قلوب ونفوس وسلوكيات محبيه وأتباعه، قيمة العفو، وحث على نشرها بين الناس، ودعا إلى اعتمادها في تطوير ودعم العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأفراد والجماعات، لكي يزداد المجتمع رصانة ومتانة، وتقوى العلاقات الاجتماعية القائمة على العفو والتسامح والاحترام والتآزر على الشدائد....
(كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) آية في الحلم وكظم الغيظ) الإمام الشيرازي
ونحن نقترب من ذكرى استشهاد الإمام السجاد (عليه السلام)، لابد لنا أن نقتفي آثاره الأخلاقية الجمة التي زرعها في قلوب الناس، فأورقت وأثمرت وتمددت لتصلح الملايين ممن تعرضوا لحملات الانحراف المبرمجة، وكان كل ما يقوم به الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عبارة عن برامج مضادة لتدمير الأخلاق وإلحاق الأذى بالمسلمين.
على الرغم من الأمراض المزمنة التي رافقت حياة الإمام السجاد (عليه السلام)، لكنه بعزيمته التي لا تكلّ، عمل على تطوير أخلاقيات الناس وتنميتها، ليس بالكلام فقط، ولا بالتوجيهات اللفظية وحدها، وإنما هنالك دروس عملية قام بها الإمام بنفسه، لكي يرى الآخرون ما يقوم به الإمام السجاد (عليه السلام)، وهو قدوتهم وقائدهم ومعلمّهم في نفس الوقت، فيأخذون عنه الدروس العلمية النظرية، والعملية التطبيقية كي يطبقونها في جوانب عديدة.
من الأخلاقيات والقيم التي زرعها الإمام (عليه السلام) في قلوب ونفوس وسلوكيات محبيه وأتباعه، قيمة العفو، وحث على نشرها بين الناس، ودعا إلى اعتمادها في تطوير ودعم العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأفراد والجماعات، لكي يزداد المجتمع رصانة ومتانة، وتقوى العلاقات الاجتماعية القائمة على العفو والتسامح والاحترام والتآزر على الشدائد.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (المعصوم السادس الإمام علي بن الحسين عليه السلام):
(من الأُمور المهمّة التي كانت واضحة في سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) التأكيد على الأخلاقيات، ومنها: العفو عن الآخرين لدى إساءتهم، وعدم الردّ بالمثل. ففي دعائه المعروف بـدعاء (مكارم الأخلاق) يقول: اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وحلّني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتّقين، في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضمّ أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة، وخفض الجناح).
ومن الدروس الأخلاقية المهمة والأساسية التي عمد الإمام السجاد (عليه السلام) إلى نشرها بين المسلمين، قيمة الحلم، وكظم الغيظ، وعدم التسرع في الرد، سواء في القول أو بأساليب أخرى، فالحلم يعني كبح الغضب وامتصاص التوتر، مما يؤدي إلى إطفاء جذوة العصبية الحادة، وتخفيف رد الفعل، وتهدئة النفوس، والتعامل بالحسنى مع الآخرين.
دروس عملية في الأخلاق
الحلم سمة عظيمة من سمات أهل البيت (عليهم السلام)، وكان الإمام زين العابدين يعلّمها لمحبيه وطلابه ومريديه بالفعل وليس بالقول وحده، وكان هؤلاء يلاحظون ويرون بأم أعينهم كيف يتعامل الإمام (عليه السلام) مع من يسيء إليه من الأعداء أو غيرهم، فكان (عليه السلام) شديد الحلم، لدرجة أن قادر على امتصاص غضبه، بحيث لا يمكن ملاحظة أية تعابير توحي بالعصبية أو التذمر، من خلال كظم مشاعره في أعماقه.
ومن ثم المبادرة في التعامل مع المسيء بالتعامل الحسن، تعبيرا عن نقاء السريرة، وتقديم الدروس الأخلاقية العالية للآخرين، فليس هناك رد فعل يشابه ما فعله المسيء، وليس هناك كلام خشن، ولا مشاعر كراهية، بل هناك حلم وهدوء وإظهار المحبة والاحترام، وبذل كل ما يمكن من تهدئة وتمرير لأجواء العنف التي غالبا من ما ترافق المتسرعين بأقوالهم وردود أفعالهم، وبهذا يكون الصفح والعفو هو رد الفعل على المسيء.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) آية في الحلم وكظم الغيظ حتى مع ألد خصومه. فهو من أهل بيت شيمتهم الحلم، وخُلُقهم الصفح، وردّ السيئة بالحسنة).
من الدروس العملية التي عُرف بها الإمام السجاد (عليه السلام) التصدّق، ومساعدة المحتاجين سرّا، وفي هذا دروس إنسانية خلاقة، أخذها الناس عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ولا يزال التاريخ والحاضر يستذكر هذه الأعمال التي تمثل دروسا عظيمة وخالدة، في مجال التكافل العملي.
حيث تقديم المساعدات بكل الطرق المتاحة، ومن دون إظهارها أو التبجح بها، بل كانت تتم تحت ستار الليل، حتى أن معظم الناس المحتاجين الذين كانت تصلهم المعونات كانوا لا يعرفون من يقدمها لها ولا يعرفون صاحبها.
لم يعرف الناس أن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) هو الذي كان يدور بين الأزقة ليلا ويطرق الأبواب على المحتاجين، ويوزع عليهم ما يعيشون به، ولكن بعد أن شاع خبر موت الإمام (عليه السلام) توقف المعونات فجأة، فعرف هؤلاء مصدر معوناتهم، بعد أن بقيت سرا لا يعرفون مصدرها ولا الذي يقوم بها، إنه الإمام زين العابدين (عليه السلام)، يدور بنفسه لدعمن المحتاجين في درس تكافلي تعلمه الناس منه على مر الأزمان
يقول الإمام الشيرازي:
لقد (تكفّل الإمام زين العابدين (عليه السلام) أيّام حياته العديد من الناس، فكان يؤمّنهم ويقضي حوائجهم في العيش. فعن محمّد بن إسحاق أنّه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلمّا مات علي بن الحسين (عليه السلام) فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل).
دروس تكافلية خالدة
لقد ركّز الإمام الصادق على الجانب التكافلي، وقدم فيه دروسا عملية قام بها بنفسه، وكان يقوم بتقديم المساعدات سرّا، وغالبا ما يتم ذلك تحت جنح الليل، وهذا ما أكده شهود عاشوا بأنفسهم هذه التجارب العملية، فرووا في أحاديث وكلمات ما كان يقوم به الإمام السجاد (عليه السلام) من تقديم المعونات سرا وليلا، وفي ذلك درس تكافلي كبير.
فقد ورد في كتاب الإمام الشيرازي: (كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثيراً ما يتصدّق على المحتاجين بصدقة السر: فعن - ابن- عائشة سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السرّ حتّى مات علي بن الحسين).
وكان الإمام (عليه السلام) يركز على الفقراء والمحتاجين، وكان يجمع ما يتبقى من قوت أهله، ويضعه في جراب، يحمله على عاتقه، ثم يبدأ يجول ويدور على بيوت الفقراء والمحتاجين بشكل سري، فيوزع عليهم تلك المعونات بيتا بيتا، ولم يكن يبالي بتعب أو مرض أو راحة، فالمهم لديه هو أن تصل المعونات إلى محتاجيها في كل ليلة.
وقد اعتاد هؤلاء الفقراء مجيء المساعدات في وقتها اليومي المحدد، وكانوا ينتظرون تلك المعونات، في حين حرص الإمام السجاد على القيام بهذه المهمة رغم صعوبتها، ولم يستعن بأحد من الموالين أو الأتباع والطلاب والمؤيدين، بل كان يقوم بهذا الجهد التكافلي بنفسه في كل ليلة، دونما تعب أو كلل.
يقول الإمام الشيرازي: (في خبر أنّه (عليه السلام) كان إذا جنّ الليل وهدأت العيون قام إلى منزله فجمع ما يبقى فيه من قوت أهله، وجعله في جراب ورمى به على عاتقه، وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثّم ويفرّق عليهم. وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب).
بهذه الأخلاقيات والدروس العملية والنظرية، يعلمنا الإمام السجاد كيف نساعد بعضنا، وكيف نحمي أنفسنا بالأخلاق والقيم التي تحافظ على اللحمة الاجتماعية، وتزيد من التماسك المجتمعي، عبر قيم كبيرة لابد من العمل بها، كالعفو والحلم والتكافل والتعاون في جميع المجالات، فالأمة التي تتعاون فيما بينها أخلاقيا وقيميّا سوف تواصل السير في الاتجاه الصحيح دائما وأبدًا.
اضف تعليق