بدأ الإمام زين العابدين، عليه السلام، برنامجاً منتظماً لتوزيع المساعدات على بيوت الفقراء والمحتاجين تحت جنح الظلام فقط، حيث لا يراه أحد مطلقاً، فكان يترك الجراب المليء بالطعام عند ابواب بيوتهم ويطرقها ثم ينصرف، وحسب المصادر فان فقد أحصي عدد البيوت التي كان يصلها الامام سراً بنحو مائة بيت...
شعورٌ عارمٌ بالذنب غمر نفوس المسلمين بعد واقعة كربلاء، المشاعر السلبية متلاطمة؛ بين خذلان ابن بنت نبيهم، وذلّ العبودية لعدو نبيهم، والاحساس بالجدب الروحي والعاطفي، فكانت سفينة الامام زين العابدين، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده، لتنتشل من يريد النجاة من واقعه بتحفيز الفطرة السليمة في تلكم النفوس بما هو محبب اليها، فكان منهج الدعاء والتضرع الى الله –تعالى- فترك لنا وللانسانية؛ "الصحيفة السجادية"، وكان منهج تحرير العبيد والإماء لترميم التصدع في كيان المجتمع الاسلامي الذي مزقه النظام الأموي بالتمييز العنصري والطبقي، ولتكون بداية النهاية لنظام الرقّ الموروث عند العرب من العهد الجاهلي.
ومن الفنارات المضيئة للأمة؛ صدقة السرّ التي تميّز بها الامام زين العابدين في عهده خلال معاشرته أهل المدينة طيلة فترة إمامته.
إنها استجابة غاية في الذكاء لمشكلة نفسية عانا منها المسلمون، وتحديداً أهل المدينة ممن لزموا بيوتهم حفاظاً على سلامتهم وسلامة عوائلهم وممتلكاتهم من أن يهددها الأمويون اذا ما انضموا الى نهضة الامام الحسين الإصلاحية، ثم حصل ما حصل لهم من اجتياح مدينتهم من قبل الجيش الأموي في عهد يزيد بن معاوية، فيما "بواقعة الحرّة"، عندما أباح يزيد لجنوده فعل أي كل شيء في أموال وأعراض المسلمين بدعوى أنهم خارجين عن طاعة الحاكم، فهم خارجين عن الملّة! فكانت الصدمة شديدة، والجروح عميقة في النفوس تحتاج لترميم وتسكين، هذا؛ والامام، عليه السلام، يرى في أهل المدينة الخذلان عن نصرة أبيه في دعوته الرسالية، مع ذلك؛ فهو الإمام المقتفي أثر جدّه المصطفى؛ {رَحمَةً للعَالَمِين}.
بدأ الإمام زين العابدين، عليه السلام، برنامجاً منتظماً لتوزيع المساعدات على بيوت الفقراء والمحتاجين تحت جنح الظلام فقط، حيث لا يراه أحد مطلقاً، فكان يترك الجراب المليء بالطعام عند ابواب بيوتهم ويطرقها ثم ينصرف، وحسب المصادر فان فقد أحصي عدد البيوت التي كان يصلها الامام سراً بنحو مائة بيت، "فقد شرّع صدقة السر، وجنح بها الى اتجاه أشدّ انسانية لانها تحفظ كرامة السائل، والمُعوز بعيداً عن إذلاله"، (سيرة أهل البيت، تجليات للإنسانية- الدكتور حسن عباس نصرالله).
ليتصور أي واحد منّا يتعرض لضائقة مالية شديدة وهو على باب مستشفى، او عند جامعة أهلية، أو عند صيدلية، أو حتى في سوق يعجز عن تلبية احتياجات أسرته، ثم يخبروه أن "حسابه واصل" من شخص مجهول، كيف يكون شعوره؟ بالمقابل نلاحظ مشاعر من يعلنون حاجتهم للمساعدة بشكل أو بآخر في الوقت الحاضر، كيف ينظرون الى المجتمع؟ وما هي نظرة المجتمع اليهم؟
وبقدر اتساع مساحة المكفولين بالمساعدة السرية في المجتمع، نكون قد أحرزنا القدر الأكبر من التماسك والأمان والاحترام المتبادل بين افراد المجتمع، لأن ببساطة سيكون الاحترام حالة تعمّ الجميع، وليس فقط من يسير في الشارع بسيارة فارهة، او يمتلك بيت فاخراً، وأموالاً طائلة، بل حتى الانسان الذي يسكن في بيت إيجار مساحته خمسون متراً مع زوجته وأطفاله، ويكسب قوت يومه من بيع الفاكهة والخضار على الرصيف، فعندما يلتقي الابوان في الشارع والسوق، كما يلتقي الأبناء في المدرسة والجامعة، وكذا النسوة في البيوت، يكون الشعور بالكرامة والعزّة بشكل متساوٍ بين الجميع.
سمعت من خلال متابعتي لصفحات الفيسبوك مقطعاً لرجل عراقي يقيم في اميركا بتحدث بغير قليل من الاعجاب والشغف بطريقة تحمل تكاليف دراسة ابنه في الجامعة بشكل سري من خلال المراسلة على البريد الالكتروني –كما بينوا له المعنيون هناك- حيث يعطى للمهاجر مجموعة عناوين يراسل اصحابها لعلّ إحداها تكون لإنسانٍ محسنٍ، وهذا ما حصل لهذا الشاب، فقد وصلته إجابة على طلبه بأن تم تحمّل تكاليف دراسته كاملة، علاوة على مبلغ يصله كمصروف جيبي يحتاجه الطالب، وكان الرجل العراقي المهاجر يتكلم بلهفة كبيرة وهو يقول: "وصلتنا المساعدة دون أن نعرف صاحبها، وهو لا يعرفنا مطلقاً".
لسنا بوارد الخوض في دوافع ذلك المواطن الاميركي في طريقة إيصاله المساعدات لهذا الطالب او غيره، او حتى إيصال المال لمن يحتاج لعملية جراحية عاجلة، او علاج لمرض عضال، او للنجاة من فقدان المسكن، إنما الذي يهمنا ويحزّ في نفوسنا البون الشاسع بين واقعنا الاسلامي (الشيعي) والواقع الحضاري العظيم الذي صنعه الامام زين العابدين في القرن السابع للميلاد، أي قبل حوالي اربعة عشر قرناً من الزمن، فقد منح الكرامة والعزّة والكفاف للمسلمين دون النظر الى أن كون صاحب الدار من الموالين له، او من يصلي خلفه في المسجد، او يحترمه ويقدسه كإمام معصوم، المعيار؛ أن يكون معروفاً في المجتمع بفقره، هذا فقط لا غير.
وعندما نسمع الشكوى من عدم التفاعل الجماهيري مع الالتزامات الدينية، او عدم وجود ملامح الثقافة الاسلامية في السلوك والعادات الاجتماعية في بلد مثل العراق رغم الكم الهائل من المساعدات السخية الى آلات العوائل والبيوت، مع كفالات بأعداد غفيرة للأيتام، علينا الالتفات بدقّة الى الوضع النفسي لكل هؤلاء، هل يشعرون أنهم يعيشون بشكل طبيعي كما الآخرين ممن لا يزورون مكاتب المؤسسات الخيرية بحثاً عن المساعدات العينية والمالية؟
تحدث لي أحد المسؤولين عن المؤسسات الخيرية بأننا ندعو النساء بين فترة واخرى الى جلسات ثقافية يستمعون فيها الى محاضرات تربوية مفيدة، او توجيهات دينية، فلا نجد العدد الذي نراه في يوم توزيع الرواتب والمساعدات في مقر المؤسسة!
وهذا لا يعني –بأي حال من الاحوال- أن الميسورين أكثر التزاماً بالتعاليم والاحكام الدينية، وأكثر وعياً وثقافة، بل الملاحظ أن بعض اصحاب رؤوس الاموال والمصالح التجارية –وليس كلهم- مشغولين في الحفاظ على أموالهم الخسارة بين أمواج السوق المتقلب، او يبحثون عن أسهل الطرق لتحقيق الارباح، مع ذلك؛ فان حالة التديّن والمشاعر الانسانية والقيم الاخلاقية سائدة بين اوساط المجتمع بشكل عام، إنما المهم توفير المصداقية العملية للمفاهيم والقيم التي ضحى من أجلها الأئمة المعصومين، ومنها؛ الكرامة الانسانية التي وفّرها الإمام زين العابدين للمجتمع وللأمة.
اضف تعليق