الحزم هو إرادة الخير، والخير هو الحزم، فالإنسان الذي يريد الخير ويستخدم الحزم بطريقة ليّنة سلسلة ويسيرة، فهذه بالنتيجة تمثل إرادة إنسانية حقيقية، لذلك فإن الإنسان العاجز هو الذي يستخدم القوة المفرطة، فهو أما عنده أفكار شريرة أو احتقار للبشرية، ولا ينظر إليهم كبشر، أو أنه يعاني من عقدة...
(كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ)
مقالنا هذا يأتي ضمن سلسلة مقالات مفاتيح النهضة والتقدم في منهج الإمام علي (عليه السلام)، وتطرقنا إلى بعض العناصر في استراتيجية السلم والتآلف، فما هي العناصر الأخرى؟
لقد طرحنا في السابق عدة مقدمات عن هذا الموضوع وذكرنا، بأن أفكارنا هي التي تقودنا الى افعالنا، من خلال اللاوعي التي تسكن فيه هذه الأفكار، فتبعثنا لاشعوريا نحو غاية مطلوبة او رغبة نطلبها، لذلك فإن أفكارنا هي شخصياتنا، وهي حياتنا وهي ما نصل إليه من نتائج، لذلك لابد أن نختار أفكارنا بشكل صحيح.
كذلك يجب أن نعرف ونفهم بأن التغيير لا يبدأ إلا من الذات، ومن الإنسان الذي يجب أن يبدأ التغيير من نفسه لأجل نفسه ولأجل الآخرين، وقد طرحنا الاستراتيجيات التي تبين منهج الإمام علي (عليه السلام) والمفاتيح التي تميز هذا المنهج من أجل بناء فكر جديد، تنويري قادر على إنقاذ البشرية وإنقاذنا من المحن التي نعيشها، التي تشبعت بها أفكارنا، وانتشالنا من الآيديولوجيات البائسة التي تحكم أفكار البشرية.
أهمية اختيار الأفكار الصحيحة
عندما نلاحظ اليوم حروب الدول وهي واقفة دائما على حافة الهاوية، والوقوع في حرب عالمية كارثية، هذا يعني أن أفكار تلك الدول خاطئة، وهي لم تختر الأفكار الصحيحة لكي لا تقف على حافة الهاوية، ومن ثم قد تسقط من هذه الحافة إلى الهاوية، لذلك لابد من خلال اختيار الأفكار الصحيحة من اجل أن نؤسس لتجارب صحيحة واتخاذ قرارات صائبة. فالتجارب السيئة إذا حصلت سوف تبقى في ذاكرة الأجيال ولا تُمحى، أنه في زمن من الأزمان كانت هنالك تجربة سيئة لازالت تؤثر عليهم.
وفي ضمن استراتيجيات التآلف واللاعنف عند الإمام علي (عليه السلام) طرحنا ثلاثة استراتيجيات وهي (الصبر مفتاح السلام، الرحمة وارواء القلب بها، والعفو المطلق) وهنا سنطرح الاستراتيجية الرابعة.
القوة هي التي تصنع الأحداث
سنبحث معنى القوة في استراتيجية الإمام علي (عليه السلام)، فالقوة كمفهوم يتسبب كثيرا في صناعة الأحداث، من خلال المعنى الذي ينبعث منها، فكل حدث يحصل هو نتيجة لأفكارنا وآيديولوجياتنا التي تحكم أفهامنا، كذلك صناعة القوة تحصل من خلال الأفكار التي يبعثها المفكرون في المجتمعات، والأكاديميون، والكتّاب والمحللون الاستراتيجيون.
هذه الأفكار هي التي تعطي المعنى للقوة، ولذا فإن القوة الموجودة على مرّ التاريخ، كانت كارثية بشكل مطلق، وتسببت بالكثير من الشرور، فالقوة الغاشمة مخرجاتها هي الاستبداد والعنف والظلم والهيمنة على البشر وعلى أفكار الناس، والنتيجة تؤدي إلى تحطم المجتمعات وخمولها وتخلفها وانقراضها واندثارها، فتموت هذه المجتمعات الحية بسبب القوة الغاشمة.
أولا في معنى القوة:
إن القوة هي القدرة على جعل الآخرين يعملون ما لم ينووا القيام به، وهي القدرة على تحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، عبر امتلاك المصادر الاقتصادية، أو العسكرية أو الفكرية والثقافية والعلمية، والموارد والثروات الأرضية، كالنفط والغاز والمعادن، وكل المصادر التي تعطي القوة لذلك الحاكم أو لتلك الدولة أو لتلك السلطة.
وفي العصر الحديث يتداخل معنى القوة مع عدة مفاهيم أخرى، مثل القهر والقسر والإكراه والإرغام والردع والإرهاب والإغراء والقانون، وأيضا مع مفاهيم أخرى كلها تعطي القوة التي تستخدمها الدول والسلطات والحكام من أجل السيطرة والهيمنة على الناس، ويمكن ملاحظة ذلك في تحليل مصادر القوة عند هذه السلطات وهذه الدول وماذا تنوي أن تفعل وتفسير سلوكياتها التي قد تؤدي إلى كوارث خطيرة.
ميكافيلي وبناء القوة الانتهازية
ويعدّ ميكافيلي المعروف بأنه من أكثر المفكرين المؤثرين في بناء القوة الانتهازية، والقوة السائلة وهي القوة الخالية من القيم، والتي فيها سيطرة وهيمنة وارغام من دون وجود أي قواعد أخلاقية، أو مشروعية إنسانية او شرعية اجتماعية، حيث الأهم والمهم هو الوصول إلى الغاية مهما كانت الوسائل.
لذلك يعتبر ميكافيلي منظّر هذه القاعدة التي تقول (الغاية تبرّر الوسيلة)، بمعنى أن غاية الحاكم تبرر له استخدام جميع الوسائل لتحقيقها، سواء كان غير أخلاقية وغير شرعية ولا إنسانية، حتى لو كانت نتائجها سيئة.
الميكافيلية ترى ان القوة هي أهم الوسائل والغايات التي يمكن تحقيقها دون النظر بشرعية الوسيلة، وشكل الوسيلة وأخلاقيات الوسيلة التي من خلالها تُنفَّذ القوة، وفي سبيل تحقيق هذه القوة، لا يعطى أي اعتبارات إلى مدى شرعية تلك الوسائل وأخلاقياتها، المهم تحقيق الغاية بأية وسيلة كانت، حتى لو بالقوة الغاشمة، أو قوة عسكرية تؤدي إلى مقتل مئات الملايين من الناس، فالمهم تحقيق غاية السلطة والحاكم في الهيمنة.
هناك بعض المفكرين الأمريكيين طرحوا مفاهيم أخرى للقوة، مثل القوة الصلبة التي تمثل القوة التقليدية العسكرية، وهناك القوة الذكية والقوة الناعمة وهي تدار عبر الغزو الثقافي من خلال بناء سلوكيات موجودة في المنظومة السلوكية لتلك الدولة كالأفلام والسينما والطعام، والتلفزيون، والانترنيت، وشبكات التواصل الاجتماعي، من أجل صناعة هيمنة تلك الدولة (مثلا أمريكا) هي القوة المهيمنة على الشعوب التي يتم اختراقها ثقافيا، وهذه تسمى بالقوة الناعمة.
بعضهم ربما يعتبر القوة الناعمة مشروعة، وليس فيها إشكال لأنها قوة غير عنيفة، ولكن المضمون الثقافي والفكري والآيديولوجي لتلك القوة الناعمة، خطير جدا بل أخطر من القوة العسكرية، لأنه فكر لايؤمن بالقيم والأخلاقيات والمبادئ الانسانية، والمهم أن يزعزع سلوك الناس ومنظومتهم الفكرية والأخلاقية، ويحطمهم ويجعلهم بلا قيم، ويهيمن عليهم لبناء الاستهلاك الرأسمالي، فالرأسمالية تهدف إلى الربح، ومن خلال الغزو والاختراق الثقافي، تؤدي إلى بناء منظومة بديلة تحقق الهيمنة على الناس وتجعلهم مستهلِكين لمنتجاتها.
فهذه الأنواع من القوة تؤدي كلها بالنتيجة إلى تدمير البشر، سواء كانت ثقافية أو عسكرية، أو اقتصادية ولا تفريق فيما بينها.
ما هي القوة الحقيقية المفيدة للبشرية؟
إنها القوة التي طرحها الإمام علي (عليه السلام) في كلماته القيمة وهي مفتاح من مفاتيح التغيير، والتقدم، والنهضة لنا كمجتمعات محبة ومطيعة للإمام علي (عليه السلام)، وكذلك موجهة لمجتمعات البشرية كافة، كي تستفيد من هذه الكلمات كمفاتيح لانفتاح بركات السماء على الناس.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْماً فِي لِينٍ)، (قوة في دين) تعنى أن القوة الحقيقية التي تستطيع أن تؤدي إلى تحقيق مضامين القوة الصحيحة السليمة، والقيادة الصحيحة هي القوة الدينية، لأنها قوة تؤسس لمفاهيم اساسية في بناء الاستقامة السلوكية للبشر، مثل الإيمان، والتقوى، والأمانة.
هذه القيم تؤسس للإنسان الصالح، وتردعه من الاعتداء، وتحقق له حقوقه مع احترام حقوق الآخرين، وكذلك فإن الانضباط وبناء المسؤولية الفردية ينبع من الإقناع وليس الإكراه، لأن الاكراه تحطيم للمجتمع وتهديد للتسالم، لذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): (قوة في دين وحزما في لين).
كيف يتحقق الانضباط الاجتماعي؟
ان الهدف من القوة في المجتمعات كافة، سواء كانت غاشمة أو غير غاشمة، هدفها تحقيق الانضباط الاجتماعي والأمن العام الذي يشمل الأمن السياسي، والأمن الاقتصادي، والأمن الثقافي، الهدف تحقيق الانضباط والالتزام بالقانون عبر استخدام القوة، لذلك يُقال في الفكر السياسي المعاصر إن الشرعية الحقيقية للقوة العنيفة هي للدولة، فالانضباط هي غاية القوة، فيقول الإمام (عليه السلام): (وحزما في لين).
جملة (قوة في دين) تعني أن القوة تنبع في الدين، وهناك البعض يقول إن القوة تعني الالتزام بالدين بشكل قوي، وسمّوه بالدين المتصلب أو الالتزام المتشدد بالدين، لكن هذا القول لا ينسجم مع كلمات أخرى للإمام علي (عليه السلام)، ولا مع الكلمة اللاحقة لجملة (وحزما في لين)، فالحزم يعني القوة أو إدارة القوة، فهناك قوة وهناك إدارة لها، والإدارة للقوة هي التي تنتج الانضباط والالتزام عبر (الحزم).
بعضهم يقول أن جملة (حزما في لين) تعني استخدام الحزم مع اللين فهما منفصلان، ولكن اللين هو الحزم، فاستعمال اللين هو الحزم، لأن الدين الإسلامي غير قائم على الإكراه ولا على التسلط ولا على العنف، فالحزم والانضباط يتم من خلال اللين واللاعنف والرفق.
هذا المعنى يتوافق مع معنى (قوة في دين)، فالقوة الدينية قائمة على اللاعنف واللين، وقائمة على الاهتداء والاحترام والحرية والاقناع، وعلى عدم الإكراه (لا إكراه في الدين)، وكما في الآية القرآنية (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) الغاشية 22. هذه الآيات القرآنية تؤكد على معنى عدم الإكراه، لأنها الهدف هو بناء الإنسان الصالح من خلال حريته وإرادته وحرية اختياره وقدرته على اتخاذ القرار.
العباسيون خسروا كل شيء
هناك في التاريخ بعض التجارب السيئة المتلبسة بالدين، لكنها لا تعبّر عن الدين، فهذه التجارب سيئة لأن بعضهم استغل الدين من أجل الهيمنة والتسلط، كما في العباسيين حين رفعوا راية (يا لثارات الحسين) وانتصروا برفع شعارات تعبر عن أهل البيت (عليهم السلام) ثم انقلبوا عليهم واستباحوا دماءهم ووضعوهم في السجون كما حصل مع الامام موسى بن جعفر الكاظم، لكن ماذا كسب العباسيون؟
لم يحصل العباسيون وحكامهم على أي شيء، لكن في المقابل أهل البيت (عليهم السلام) بقوا، وكلامهم وقوتهم وسيرتهم بقيت وتبقى خالدة، مع العلم أن الإمام الكاظم (عليه السلام) سُجِن عشرات السنين في سجون هارون لأكثر من ثلاثين سنة وأرادوا أن يزعزعوا إرادته، ويحجبوه ويمنعوه من التواصل مع الناس، لكن كلمة الإمام الكاظم (عليه السلام) بقيت كلمة خالدة، وهذا هو معنى القوة أن توفر للناس المنهج الصحيح واليقين والصدق بالحياة الصالحة.
القوة الفاشلة
إن معنى القوة حسب المصطلح اليوم هو معنى فاشل، مع الاحترام لكل الباحثين في هذا الأمر، لأنه لم يحقق أي انضباط للناس ولم يحقق الأمن، ولا السيادة، ولا التماسك، ولم يحقق الاتحاد والوحدة، بل هناك مجموعة من السياسيين يستأثرون بالسلطة والمال بالاستبداد والعنف، ويدمرون البلاد، هذا ديدنهم وهذا معنى قوَّتهم وهو استباحة مقدرات الناس وأنفسهم.
لذلك ان العالم كله إلى الآن يعيش في رعب ويقف على حافة الهاوية، بسبب التهديد باندلاع حرب عالمية جديدة، فكل واحدة من القوى العظمى يمتلك عشرات الأسلحة النووية، في أمريكا وروسيا والصين وأوربا، وكل هذه الأسلحة معدَّة لتدمير العالم، فإذا حدثت حرب عالمية سوف ينتهي العالم.
وهذا استعراض سيّئ للقوة واستخدام سيّئ لها، لأنه لا توجد مبادئ تحكمهم، فهؤلاء يتحدثون دائما عن المصالح، ولكن مصالح من؟، هل هي مصالح البشرية؟ إنها مصالح الحكام، فالحاكم يجلس في قصره منعزلا عن الناس ثم يقرر أن يشن الحرب، لأنه يعاني من الفراغ، أو يريد أن يحقق بعض المصالح، أو أنه يخاف على سلطته، ومهما كانت سعة نفوذه، فهذه ليست قوة، وإنما ضعف الحاكم. فالقوة الغاشمة تعبر عن ضعف الحاكم، لأن القوة الحقيقية هي القوة التي تنبع من المبادئ.
القوة في كلمات الإمام علي (ع)
إحدى الكلمات التي يقولها الإمام علي (عليه السلام): (وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ) فالكل في مستوى واحد، لا يوجد عند الله تعالى أحد ضعيف والآخر قوي، كما يقول أولئك الذين يؤمنون بقاعدة (البقاء للأصلح)، ووفق هذه القاعدة فإن الضعيف لابد أن يسحق فالبقاء للأقوى، وهذه القاعدة متوحشة جدا.
أحد أسباب عيش البشرية للكوارث والاختلال هو قضية التوحش الموجودة في الآيديولوجيات المركزية التي يؤمنون بها، ويعطونها الأولوية لتحقيق مصالحهم، وكل هذه الآيديولوجيات نابعة من مفهوم أو قاعدة (البقاء للأصلح)، وبعضهم يسميها الحداثة السائلة، وهي الحداثة التي لا توجد فيها قيم، ولا إنسانية، وليس فيها حدود تحدد سلوكياتها.
وإنما هي مفتوحة لكي يأكل القوي الضعيف، ومفتوحة للهو والمتعة والربح والهيمنة والسيطرة، والاختراق الثقافي والآيديولوجي، والتلاعب بالشعوب والمصائر، والإباحية المطلقة.
القوة الشيطانية!
لذلك هذا المعنى لا علاقة له بالقوة، وإنما يعني القوة الشيطانية، والتدميرية، ولكن للأسف الشديد أن هناك بعضهم يركض وراء هذه الآيديولوجيات ويصدقها، ويؤمن بأنها سوف تحقق له المصير الإنساني الصحيح، وتبينت في آخر المطاف أنها انتجت الشرور والسيئات.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في كلمة أخرى: (كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ)، هو الله سبحانه وتعالى، هو القوة الأكبر والأعظم، وهو القوة الحقيقية الصحيحة، وكل قوة أخرى تنبع منه، سواء كانت قدرات تكوينية، أو كانت قدرات بشرية، فإنها جميعا تنبع من قوة الله سبحانه وتعالى، وأية قوة أخرى تعارض قوة الله فإنها قوة فاشلة، ولا تستطيع أن تحقق غاياتها.
لذلك فإن الإنسان الذي يبحث عن العيش المستقر والمستقيم والمستدام، والآمن لابد أن يسير في طريق الله سبحانه وتعالى، ويستفيد من قوة الله سبحانه وتعالى ويكون عنده بناء متوازن بين الواقع الاجتماعي والواقع التكويني، والواقع الاقتصادي والواقع التكويني، فكل أعمالنا وسلوكياتنا لابد أن تنسجم مع القواعد والسنن الإلهية الكونية، هذا هو المعنى الحقيقي للقوة وهو المعنى الذي تطرقنا له في قضية (قوة في دين وحزما في لين).
لأن البناء الديني قائم على الاقناع والتفاهم والحوار والتعايش، ويقول الإمام علي (عليه السلام) أيضا: (الحزم كياسة) والكياسة تعني الإنسان الفطن الذكي، أو ذكاء وفطنة، فالإنسان لابد أن يستخدم ذكاءه في إدارة وتدبير حياته ومجتمعاته، ويعني (الحزم كياسة) أيضا أن الإنسان الذي يستخدم القوة بذكاء هو إنسان منتج وذكي وقوته تكون منتِجة.
استخدام الذكاء الوحشي
أما الإنسان الذي لا يستخدم القوة بكياسة وذكاء، فإنه يصبح قائد لقوة غاشمة وفوضوية، وقوة منتجة للشرور، ولذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): (الحزم صناعة، ثمرة الحزم السلامة، من لم يقدمه الحزم أخره العجز)، كل هذه الكلمات تتناول مفهوم القوة، لأن الحزم يعني (إدارة القوة)، وهو سلوك يمارسه الإنسان للوصول الى الغايات السليمة والنهايات الآمنة، لذا لابد أن يستخدم الذكاء الإنساني، وليس الذكاء الوحشي.
هنالك بعض الناس يستخدمون الذكاء الوحشي، وهذا ليس بحزم، أما الذكاء الإنساني فهو يؤدي إلى (ثمرة الحزم السلامة)، أي يؤدي إلى سلامة الإنسان والناس أيضا، ويحقق السلم الاجتماعي والسلم الأهلي، لذلك هو صناعة وتربية، تحتاج إلى قواعد وأسس وبناء، ومن خلال ذلك يتم تحقيق القوة الحقيقية لبناء البلاد.
أما الذي لا يسير في طريق الحزم، يكون عاجزا، وهذا هو معنى الضعف الحقيقي، إذ يوجد عندنا عجز يقابله الحزم، ولدينا قوة في مقابل الضعف، بعض الناس ضعفاء من الناحية الاقتصادية والذهنية والوضع الاجتماعي، هذا العاجز قصورا ليس ضعيفا في الحقيقة، وإنما بسبب أن الظروف التي عاشها لم تكن جيدة، لكن هذا الإنسان لديه قوة حقيقية عند الله سبحانه وتعالى وعند الإمام علي (عليه السلام).
هل الإرادة لها علاقة بالحزم؟
الحزم هو إرادة الخير، والخير هو الحزم، فالإنسان الذي يريد الخير ويستخدم الحزم بطريقة ليّنة سلسلة ويسيرة، فهذه بالنتيجة تمثل إرادة إنسانية حقيقية، لذلك فإن الإنسان العاجز هو الذي يستخدم القوة المفرطة، فهو أما عنده أفكار شريرة أو احتقار للبشرية، ولا ينظر إليهم كبشر، أو أنه يعاني من عقدة نقص، فيحتقر نفسه وذاته ويكره الآخرين، هذه المؤشرات كلها تدل على العجز وليس القوة.
ليس قويا من يقتل الآخرين لأنه يمتلك سلاحا، وهذا يمكن ملاحظته في فهم معنى القوة ومعنى الحزم، يقول الإمام (عليه السلام): (وَلَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَعِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَمُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَلَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ)، هذا الحديث يفسر معنى (قوة في دين وحزما في لين)، بأن القوة التي نلاحظها في عالم اليوم، ليست قوة حقيقية، لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد أن تكون هذه القوة حقيقية، لأعطاها للأنبياء.
الأنبياء جاءوا بالأفكار، بالرسالة، بالإرشاد والهداية للناس، أي جاءوا بقوة الدين، والحوار والإرشاد، وقوة الاهتداء والهداية لطريق الله سبحانه وتعالى، هذه هي قوة الأنبياء، ولو شاء الله لأعطاهم قوة الملوك والسلاطين وأسلحة القوى العظمى، ولكنه أراد أن يحقق البعد الإلهي من خلال الحوار والتعايش واللين والسلام والرفق.
في المقال القادم، سوف نتطرق بالتفصيل عن قوة الأنبياء، ونبين لماذا جعل الله من هذه القوة، هي القوة الحقيقية التي تحقق للبشرية الغاية المقصودة لتحقيق التغيير والتقدم للبشرية وليس الغاية الشهوانية.
اضف تعليق