إن ذكرى استشهاد أمير المؤمنين لجديرة بأن تكون مناسبة جديدة للتأمّل في واقعنا المؤلم على كل الصُعد، وأن نستلهم من صاحب الذكرى كيف نبحث عن الحلول؟ وما هي المنهجية الصحيحة والآمنة للسؤال عما يفيدنا لحاضرنا ومستقبلنا، وما يفضي الى النجاة...
"سلوني قبل أن تفقدوني"
سلام الله عليك يا أمير المؤمنين، في هذه الأيام المُجدّدة لذكريات آلامك وشجونك ومعاناتك على جبهات عدّة؛ الباطل، والتضليل، والتسطيح، والغدر، فوق كل ذلك لا تبرح تكرر: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني أعلم بطرق السماء منها من طرق الأرض"، تكررها على المنبر غير مرة أمام جمهور المسلمين، ولتم تنس –حاشاك- هذه العطية السخيّة للناس والاجيال عبر التاريخ حتى في آخر لحظات حياتك الشريفة، بعد أن ضربك شقيق عاقر ناقة ثمود، أشقى الآخرين، على رأسك، وأنت على فراشك تدعو بنفس الدعوة السابقة: "سلوني قبل أن تفقدوني"، ثم تردف بما يمزق نياط القلب: "وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم"!
الحثّ على شجاعة التعلّم
قوة الانسان العربي في ساعده وسيفه، يدرء بها ما يباغته من المكاره والنوائب، فهو يتحسس من أية دلالة على الضعف وإن كانت واقعية، مثل؛ الجهل، ولعل أول فقرات المنهج التربوي لرسول الله مع اصحابه؛ شجاعة السؤال، واختراق عقدة الضِعة والتحسس من وصمة الضعف والجهل، فكان بعض الاصحاب يسألونه، صلى الله عليه وآله، عن أحوال الأمم السابقة وما جرى بينهم وبين انبيائهم، خلال نزول الآيات الكريمة تباعاً، مع ذلك؛ لم تتحول مجالس السؤال والجواب تلك الى ثقافة عامة عند المسلمين، بل عمد من خَلَف رسول الله، الى تغييب هذه الثقافة عن الامة، والقصة معروفة عن الرجل الذي سأل عمر بن الخطاب عن {وفاكهة وأبا}، فصمت قليلاً ثم قال: ألم أنهكم عن "التكلّف في كتاب الله"، أي لا تسألوا عما هو غير واضح في القرآن ودعوه الى الله –تعالى-! ثم سألوا أمير المؤمنين ليعطيهم الجواب السريع والمفاجئ للجميع من ذات الآيات الكريمة: {وفاكهة وأبا لكم ولانعامكم}، فالفاكهة للانسان والأب علف الحيوان، هذا بكل بساطة!
علماً أن الله –تعالى- غرز في نفس الانسان –ضمن غرائزه العديدة- حب السؤال والتعلّم والتعرّف على المحيط والاشياء منذ الايام الاولى من انطلاق لسانه، إنما التراكمات النفسية، والعوامل الاجتماعية الخارجية تخلق حواجزاً نفسية تحول بينه وبين المزيد من التعلّم والتعرّف من خلال السؤال، فيبدأ الادعاء الفارغ بالعلم بكل شيء، بل واحياناً الأعلمية على الآخرين! وهو ما نجده اليوم يخلق الفتن والنزاعات وحتى الحروب المدمرة.
وعندما يكرر أمير المؤمنين دعوته هذه من أجل رفع مستوى الوعي في افراد الأمة، وتحديداً في المجتمع الكوفي الذي تكالبت عليه الفتن والمؤامرات، فقد كانت الكوفة عبارة عن حامية عسكرية في الجهة الشرقية للدولة الاسلامية، وفيها أصناف المقاتلين المحترفين المنحدرين من أصول شتّى، وكلّهم يدّعي الشجاعة الإقدام في سوح القتال، بيد أن هذه الشجاعة ربما تدفع عنهم ضرب السيف والرمح، بيد أنها لم تحفظ لهم الكرامة والعزّة التي أرادها لهم أمير المؤمنين، ومن قبله رسول الله، للأمة جمعاء، لذا اراد الإمام، عليه السلام، استنطاق أهل الكوفة، وجميع المسلمين بما يجول في اذهانهم من سؤال عن أي شيء في الحياة الدنيا، او في الآخرة، وما يدركوه بحواسهم، او لم يدركوه، فما كان يسأل إلا القليل.
ومعروفٌ أن السؤال يذهب الى اتجاهين؛ الاول: الاتجاه السلبي والاستنكاري، والثاني: الاتجاه الايجابي للعلم والمعرفة.
سؤال الاستنكار والتشكيك
وهذا ديدن المشككين والمتهربين من نور الحقيقة، ليس في عهد أمير المؤمنين، بل وفي العهود الماضية من تاريخ البشرية، حيث شهدت سيرة الانبياء والمرسلين هذه الظاهرة النفسية في البشر، وكيف كانوا ينهالون بالاسئلة الموغلة بالتشكيك والتكفير، وهذا ما نبّه اليه، عليه السلام، وتحديداً لشخص يُدعى؛ ابن الكواء، كان كثير المسايرة لأمير المؤمنين، وكثير السؤال منه، وكان يقول: "يا أمير المؤمنين ما اُريد غيرك ولا أسأل سواك"، وكان من الخوارج المُحكمة (القائلين لا حكم إلا لله)، وهو نفسه صاحب الموقف المشين بمقاطعة قراءة الإمام في صلاته وخلفه مئات الناس، بقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، فسكت الإمام احتراماً للقرآن الكريم، وبعد أن انتهى، أجاب بالآية الكريمة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}، وكان معروفاً بأسئلته السطحية والمثيرة، مع ذلك كان يستقبله الإمام ويجيب عليه، وفي نفس الوقت لا يبخل عليه بالتربية والتنبيه، كما قال له ذات مرة: "سَل ما يعنيك ودع ما لايعنيك"، وجاء في رواية أنه، عليه السلام، خطب ذات مرة وقال: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدّثتكم به، سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلاّ أنا أعلم أبليل أنزلت أم بنهار، أم في سهل نزلت أم في جبل، فقام إليه ابن الكوّا فقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذرواً؟ فقال له: ويلك سَل تفقهاً، ولا تسأل تعنّتاً، والذاريات ذرواً الرياح، فالحاملات وقراً السحاب، فالجاريات يسراً السفن، فالمقسّمات أمراً الملائكة، قال: فما السواد الذي في القمر؟ فقال: أعمى يسأل عن عمياء، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}، محو آية الليل، السواد الذي في القمر".
يكفينا هذا الموقف والحوار بين شخصية مثل أمير المؤمنين، تكون مسمّيات الزعيم والقائد والحاكم دونه بكثير، وبين شخص مثل ابن الكواء الحامل للحقد والغضينة على الإمام وعلى الحق، لنعرف أهمية السؤال حضارياً، مهما كانت الظروف، لأن المستفيد ليس ابن الكواء، وإنما الاجيال المتعاقبة، مروراً باجيالنا، والى يوم القيامة، ولمزيد من الفائدة ارتأينا إضافة محاورة أخرى:
جاءه ذات مرة وقال له:
يا أمير المؤمنين، وجدت كتاب الله ينقض بعضه بعضاً!
قال: ثكلتك أمك يا ابن الكواء، كتاب الله يُصدّق بعضه بعضاً، ولا ينقض بعضه بعضاً، فسَل عما بدا لك.
قال: يا أمير المؤمنين سمعته يقول: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}، وفي آية أخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}. وفي آية أخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}
قال له أمير المؤمنين: ثكلتك أمك يا بن الكواء، هذا المشرق، وهذا المغرب.
وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}، فإن مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدة. أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟
وأما قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}، فإن لها ثلاثمائة وستين برجاً، تطلع كل يوم من برج، وتغيب في آخر، فلا تعود إليه إلا من قابل في ذلك اليوم.
ثم قال: يا أمير المؤمنين، كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك؟!
قال: ثكلتك أمك يا بن الكواء! سل متعلماً، ولا تسأل متعنتاً. من موضع قدمي إلى عرش ربي أن يقول قائل مخلصاً: لا إله إلا الله.
وقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن قوس قزح.
قال: ثكلتك أمك، لا تقُل: قوس قزح، فإن قزحاً اسم شيطان، ولكن قل: قوس الله، إذا بدت يبدو الخصب والريف.
هذا الرجل (ابن الكواء) سأل أمير المؤمنين اسئلة كثيرة ومتنوعة بالامكان مراجعتها في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي، بيد إن الأجوبة الوافية والمضيئة لم تشفع له في الهداية والرشاد، لانه لم يبغ من اسئلته إلا الجدل والباطل والايقاع –بظنّه- بالإمام، فكانت عاقبته كما في هذا الكتاب؛ الموت مع جماعته من الخوارج في معركة النهروان عندما شاهده أحد اصحاب الإمام فاستفهم منه بأنك بالأمس تسأل الإمام والآن تحاربه، فطعنه بالرمح ومات.
السؤال للعلم والمعرفة
في رواية طويلة تشرح مشواراً لأمير المؤمنين يصطحب فيه كميل بن زياد، وكان من الخلّص، ومن جملة ما قاله له: "إن هاهنا لعلماً جما -وأشار إلى صدره- لو أصبت له حملة".
يبحث أمير المؤمنين عن حَمَلة لعلومه ومعارفه ممن يؤتمن عليها، ليس بين اصحابه الخلّص مثل كميل وحجر وصعصعة والأصبغ بن نباتة، وإنما في ابناء الجيل الراهن ممن يظهرون الولاء والحب له بمختلف الاشكال.
وجاء عنه، عليه السلام: "علمني رسول ألف باب من العلم، يفتح من كل باب ألف باب"، فما هي هذه الأبواب؟ وأين هي؟
إنها في نهج البلاغة، وفي الروايات والحكم المروية عنه، والمصفوفة في المكتبات، تبحث عمّن يسأل عنها ويبحث فيها ليستخرج ما يفيده في حل الأزمات والمعضلات، كما تحثه على المزيد من البحث عن أجوبة لمسائل أساس ومصيرية تركن جانباً، ثم ينصرف الاهتمام الى مسائل جانبية وهامشية تثير في النفوس التعنّت والتطرف الذي نهى عنه أمير المؤمنين.
إن ذكرى استشهاد أمير المؤمنين لجديرة بأن تكون مناسبة جديدة للتأمّل في واقعنا المؤلم على كل الصُعد، وأن نستلهم من صاحب الذكرى كيف نبحث عن الحلول؟ وما هي المنهجية الصحيحة والآمنة للسؤال عما يفيدنا لحاضرنا ومستقبلنا، وما يفضي الى النجاة.
اضف تعليق