أخذ على عاتقه بعد وفاة أبيه أن يتابع المسيرة من حيث انتهى والده فحارب الفساد والظلم والطغيان وفرض على دعاة الخير والمصلحين من أصحابه أن يكونوا القدوة الصالحة بأعمالهم قبل اقوالهم، لأن الناس انما ينظرون الى القادة من خلال اعمالهم، كان يقول لأصحابه: اوصيكم بتقوى اللّه واداء الأمانة...
بقلم: هاشم معروف الحسني، مقتبس من كتاب سيرة الأئمة الاثني عشر(ع)
الإمام الصادق (ع) ولد الإمام الصادق (ع) في اوائل النصف الثاني من شهر ربيع الأول وقيل في مطلع رجب من سنة ثلاث وثمانين للهجرة كما جاء في رواية المفيد والكليني وقيل سنة ثمانين، وخرج من الدنيا وافدا على ربه سنة ١٤٩ عن عمر يتراوح بين الثامنة والستين والخامسة والستين حسب اختلاف الروايات في تاريخ ولادته اقام منها مع جده علي بن الحسين (ع) اثنتي عشرة سنة أو خمس عشرة سنة في بيت لا عهد له إلا بالمصائب والنوازل جديد عهد بمأساة الدهر فاجعة كربلاء.
وفي مطلع شبابه تجرع آلام تلك الكارثة التي حلت بعمه زيد بن علي وكان وقعها شديدا عليه وعلى أهل البيت (ع) وسمع انين المظلومين والمعذبين من شيعة آبائه الكرام، وأقام بعد جده مع أبيه الباقر تسع عشرة سنة كان فيها ناضج التفكير متكامل المواهب يقصده العلماء والمحدثون ليأخذوا من علمه وحديثه في مختلف المواضيع، واشترك مع ابيه في تأسيس تلك الجامعة التي ملأت الدنيا بآثارها، وأقام بعد أبيه اربعا وثلاثين سنة وهي مدة امامته عاصر خلالها هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن الوليد بن عبد الملك الملقب بالناقص، وابراهيم بن الوليد ومروان بن محمد وعبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس المعروف بالسفاح، وكانت وفاته بعد مضي عشر سنين من خلافة المنصور العباسي.
لقد ادرك الإمام أبو عبد اللّه الصادق (ع) نحوا من ثمانية وأربعين عاما من عهد الأمويين كانت مليئة بالأحداث التي تبعث الألم في نفسه وتنكد عليه عيشه، لقد كان يرى المضطهدين من خيار الأمة وصلحائها يساقون الى الموت والسجون زرافات ووحدانا، ويرى بين الحين والآخر بين عمومته من الطالبيين شبابا وشيوخا مطاردين ومشردين يساقون الى الموت شهيدا بعد شهيد وهو يتحمل مرارة ذلك ولا يستطيع ان يدفع عنهم شر اولئك الطغاة المستهترين بالدين ومقدساته وبالأمة ومقدراتها وبالانسان وكرامته، وإلى جانب ذلك فقد اجحفوا على الأمة في فرض الضرائب وأساءوا جباية الخراج وفرضوا ما يشبه الجزية على من يدخل في الإسلام من أهل الكتاب الذين كانوا يدخلون فيه فرارا من اعباء الجزية التي كانت تستنزف جميع امكانياتهم.
والذي اردناه من هذا العرض السريع لهذا الجانب من سيرة الأمويين ان الإمام الصادق (ع) قد رافق جميع تلك الأحداث ووقف بعيدا عنها وعن الحكام والسياسيين يتحين الفرص المؤاتية لأداء رسالته حتى اذا وجد الدولة الأموية تتخبط في مشاكلها ووجد الجو الذي بدأت تباشيره في عهد ابيه مهيأ له هب لأداء رسالته بكل ما لديه من قوة وتوافد عليه العلماء وطلاب العلم ومن يحملون افكارا غريبة عن الإسلام من كل الجهات، حتى بلغت تلك الجامعة التي اسسها ابوه من قبله، وكان الصادق (ع) نفسه من نتاجها الغني بالبذل والعطاء، بلغت في عصره بفضل جهوده ذروة نشاطها في شتى المواضيع، ومجمل القول ان الإمام الصادق (ع) عاش نحوا من خمسين عاما في عهد الأمويين، ونحوا من خمسة عشر عاما في عهد العباسيين، فأدرك الدولة الأموية في قوتها وعنفوانها، ثم في تحدرها وانهيارها كما ادرك من الدولة العباسية فجرها الأول وهي تبني امجادها على أنقاض الأمويين، وتستمد من سيئاتهم بعض الحسنات، وما أن استتبت لها الأمور حتى راح الناس يرددون قول القائل:
يا ليت جور بني مروان دام لنا* * * وليت عدل بني العباس في النار
وقد أخذ على عاتقه بعد وفاة أبيه أن يتابع المسيرة من حيث انتهى والده فحارب الفساد والظلم والطغيان وفرض على دعاة الخير والمصلحين من أصحابه أن يكونوا القدوة الصالحة بأعمالهم قبل اقوالهم، لأن الناس انما ينظرون الى القادة من خلال اعمالهم، أما الأقوال التي تصدر من الوعاظ والدعاة الى الخير فليست بأشد تأثيرا منها وهي مسطورة في الكتب او منقوشة على الجدران وحتى تحقق دعوته الغاية المنشودة كان يقول لأصحابه: اوصيكم بتقوى اللّه واداء الامانة لمن ائتمنكم وحسن الصحبة لمن صحبتموه وان تكونوا لنا دعاة صامتين.
وقد وقع هذا القول عندهم موقع الاستغراب، وكيف يكونون صامتين وهم يدعون الى الخير، فقالوا: يا ابن رسول اللّه كيف ندعو الى اللّه ونحن صامتون، فقال (ع): تعملون بما امرناكم به من طاعة اللّه وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم الا على خير، فاذا رأوا ما انتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا إليه.
ولم يزل يكرر هذه الوصية ويؤكدها على أصحابه، فلقد جاء عنه أنه قال: عليكم بتقوى اللّه والورع والاجتهاد وصدق الحديث واداء الأمانة وحسن الخلق والجوار وكونوا دعاة لأنفسكم بغير ألسنتكم.
وقال ابن ابي يعفور: سمعت جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول لأصحابه: كونوا دعاة للناس بغير السنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع.
لقد كان الإمام الصادق (ع) يريد من الدعاة ان يقرنوا العمل بالقول وأن تكون اقوالهم صورة عن اعمالهم لأن ذلك ابلغ في التأثير ومن انجع الوسائل لخوض معركة تكافح الظلم بكل انواعه الى جانب اولئك المظلومين والمعذبين الذين كانوا يعانون من سياسة اولئك الطغاة المتسلطين على الأمة باسم الدين والإسلام وهم أداة هدم وتخريب لكل ما يتصل بالإسلام من قريب أو بعيد.
لقد ادرك الإمام الصادق حكم الأمويين في أقسى مظاهره وأعنف اشكاله، فكان يسمع بين الحين والآخر بما يجري على شيعة آبائه وعلى صلحاء المسلمين من قتل وحبس وتشريد وبما يحل ببني عمه وأهل بيته من القتل والصلب لا لشيء إلا لأنهم دعاة حق يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبما حل بالأمة كلها وهي تئن من ظلم الولاة وجورهم وارهاقها بالضرائب التي تستنزف خيراتها وموارد عيشها فلا عدل في حكم ولا مساواة في حق ولا نظام يضمن لأحد حريته وكرامته في هذا الوسط المشحون بالفوضى والفساد والتلاعب بمقدرات الأمة وخيراتها وكرامتها.
قضى الإمام شطرا من حياته وهو يتلوى من الألم على مصير الإسلام وعلى ما حل بالمسلمين من الويلات والمصائب وهولا يملك سبيلا لإنقاذهم مما يعانون فآثر القيام بالثورة وقادها بنفسه على الظلم والطغيان والانحراف، ولكن ثورته لم تكن بقوة السلاح كغيرها من الانتفاضات التي كانت تحدث هنا وهناك بين الحين والآخر، بل كانت بنشر الثقافة الإسلامية والدعوة الى التحلي بالخلق الإسلامي الرفيع الذي يفرض على المسلمين اجتناب المعاصي والمنكرات وحسن الصحبة والجوار والتعاون والصبر على المكاره والعمل لخير الناس اجمعين، وأراد من أصحابه أن يكونوا دعاة صامتين يدعون الناس الى هذه الخصال بأعمالهم قبل اقوالهم، وكان يقول لهم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا اجلا ولم يبعدا رزقا، ويعقب على ذلك بقوله: ويل لقوم لا يدينون اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم يلتفت إليهم لينتزع من نفوسهم الاستئثار ويضع مكانه التعاون والاحساس بآلام الغير كإحساسهم بآلامهم وأمانيهم فيقول: حب لأخيك ما تحب لنفسك ولا تتمن له ما لا ترضاه لنفسك ويؤكد هذه الناحية بقوله:
المؤمن من المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيء منه وجد ذلك في سائر جسده، ان المؤمن اخو المؤمن وهو عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه إلى كثير من مواقفه التي كان يحاول فيها تهذيب النفوس وتطهيرها ووضع حد للفساد والفوضى والتمهيد للثورة على الظلم والطغيان ومقابلة الشدائد والاهوال بقلوب لا يعرف الضعف إليها سبيلا ولا يجد الخوف فيها مكانا كما يبدو ذلك من قوله: ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا اجلا ولم يمنعا رزقا، ولكن ثورته على الظلم والظالمين والطغاة المستبدين كانت من نوع جديد كما ذكرنا كانت بنشر التعاليم الإسلامية والالتزام بها عمليا والمسلم الملتزم بأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه يحارب الظلم والعدوان ولا يحابي احدا على حساب دينه مهما بلغ شأنه وعمت سطوته.
لقد انتشرت دعوة الإمام الصادق في اطارها الخاص بعيدة عن السياسة والسياسيين، في حين ان اكثر قادة الثورة في مختلف المناطق كانوا يدعون لآل علي وللرضا من آل محمد وحتى العباسيين انفسهم كانوا يتظاهرون بذلك، فظن عامة الناس أن الأمة مقبلة على عهد جديد ما دامت الدعوة للرضا من آل محمد وعلي واتجهت الأنظار إلى الإمام الصادق (ع) ولكنه كان يعرف برايا العباسيين وأهدافهم، وليست ببعيدة عنه مواقف أهل الكوفة مع آبائه وهو يعلم أن العباسيين سيقفون منه نفس الموقف الذي وقفه معاوية من جده أمير المؤمنين وعمه الحسن ووقفه يزيد بن معاوية من الحسين بن علي ووقفه هشام بن عبد الملك من عمه زيد بن علي (ع) وشهوة الحكم والتسلط لا ترحم احدا، لقد كان بنو العباس ودعاتهم يتباكون على الحسين ومن قتل معه في كربلاء وعلى زيد بن علي وغيره من العلويين، ولما استتبت لهم الأمور واطمأنوا على مصير السلطة مثلوا اقبح الادوار التي مثلها اسلافهم مع العلويين بضراوة لم يعرف التاريخ لها مثيلا.
لمحات مما قيل فيه
لقد اجمع واصفوه بأنه لقب بالصادق لأنه عرف بصدق الحديث والقول والعمل حتى أصبح حديث الناس في عصره، وقال فيه ابن الحجاج:
يا سيدا اروي احاديثه* * * رواية المستبصر الحاذق
كأنني اروي حديث النبي* * * محمد عن جعفر الصادق
واتصف مع ذلك بنبل المقصد وسمو الغاية والتجرد في طلب الحقيقة من كل هوى أو غرض من اغراض الدنيا، لقد كان يطلب الحق للحق لا يبتغي عنه بديلا ولا تلتبس عليه الأمور، اذا ورد عليه امر فيه شبهة نفذت بصيرته الى حقيقته وأزال عنه غواشي الشبهات، وكأن النبي (ص) قد عناه بقوله: ان اللّه يحب ذا البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب ذا العقل الكامل عند حلول الشهوات.
وقال فيه مالك بن انس احد ائمة المذاهب: لقد كنت آتي جعفر بن محمد فكان كثير التبسم فإذا ذكر عنده النبي (ص) تغير لونه وقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على احدى ثلاث خصال إما مصليا وإما صائما وإما يقرأ القرآن وما رأيته يحدث عن رسول اللّه إلا وهو على طهارة ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العباد الزهاد الذين يخشون اللّه تعالى.
ومضى يقول: ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا. وقال فيه أبو حنيفة: ما رأيت افقه من جعفر بن محمد، لقد قال لي المنصور: ان الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من المسائل الشداد واسأله عنها، فهيأت له أربعين مسألة وكان المنصور في الحيرة قد أعد مجلسا حشد فيه الوجوه والاعيان وبعث إلي فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلتني من الهيبة له ما لم يدخلني من المنصور فسلمت عليه وجلست فقال لي المنصور: يا ابا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه مسائلك فجعلت القي عليه مسألة مسألة وهو يقول في جوابها: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا فربما خالفنا وربما خالفهم وأحيانا يوافقنا أو يوافقهم حتى أتيت على الأربعين مسألة ما أخل منها بمسألة واحدة، وكان نتيجة المناظرة أن قال أبو حنيفة في ذلك الحشد وبحضور المنصور الذي كان يترقب لأبي عبد اللّه الصادق (ع) ولو وقفة قصيرة عند بعض المسائل، كانت النتيجة ان قال أبو حنيفة: أعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس، فأحس المنصور بالخيبة وتبددت آماله التي كان يرجوها من وراء هذه المناظرة، لقد كان يرجو او يتمنى ان يتوقف الإمام الصادق (ع) ولو في مسألة من المسائل الأربعين التي اعدها له أبو حنيفة من بين المسائل الصعاب.
لقد كان المنصور يتمنى ذلك ليظهر للناس ان جعفر بن محمد كغيره من الفقهاء لا كما يراه شيعته وأصحابه وأكثر الناس فوق مستوى الجميع، فاستطاع الإمام (عليه السلام) ان يفرض نفسه على أبي حنيفة والمنصور وعلى الناس اجمعين.
وكان أبو حنيفة قد تتلمذ على الإمام الصادق نحوا من سنتين متصلتين حينما فر من حبس ابن ابي هبيرة والتجأ الى الحجاز فأقام بها الى ان ظهر أبو العباس السفاح وبهذه المناسبة كان أبو حنيفة يقول: لولا السنتان لهلك النعمان، والتقى به اكثر من مرة خلال سفراته الى الحجاز.
وقال فيه ابن ابي العوجاء عند ما قصد الإمام الصادق ليناظره وقد قال له الإمام: ما يمنعك من الكلام، فقال له: اجلالا لك ومهابة منك ولا ينطق لساني بين يديك واني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم مثلما تداخلني من هيبتك يا ابن رسول اللّه.
وكان المنصور مع انه من اثقل الناس عليه يقول: ان جعفر بن محمد من السابقين بالخيرات ومن الذين اصطفاهم اللّه من عباده وأورثهم الكتاب، ويردد في مجالسه التي تضم خواص اصحابه: اعلموا انه ليس من أهل بيت نبوة الا وفيهم محدّث وان جعفر بن محمد محدّثنا اليوم.
ويدعي الرواة ان المنصور الدوانيقي قد قال هذه الكلمة في الإمام الصادق (ع) على اثر اكتشاف الإمام الصادق لمؤامرة كان المنصور قد وضعها ليتخذ منها مبررا للفتك به وببعض العلويين الذين كان يخشاهم على عرشه.
وجاء فيما رواه الرواة حولها ان المنصور قال لمحمد بن الأشعث: يا محمد ابغ لي رجلا له عقل يؤدي عني، فقال له محمد اني اصبته لك هذا ابن المهاجر خذ هذا المال وأت المدينة واقصد عبد اللّه بن الحسن وجعفر بن محمد وعين جماعة من العلويين غيرهما وامره ان يدفع إليهم المال ويقول لهم بأنه من شيعتهم في خراسان فاذا قبضوا المال فقل اني رسول وأحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم، فأخذ المال وذهب الى المدينة ثم رجع إلى أبي جعفر المنصور فقال له: ما وراءك؟ قال: أتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم خلا جعفر بن محمد فاني اتيته وهو يصلي في مسجد النبي (ص) فجلست خلفه وقلت ينصرف فاذكر له ما ذكرت لأصحابه فتعجل وانصرف فتبعته والتفت إلي وقال: يا هذا اتق اللّه ولا تغر أهل بيت محمد فإنهم قريبو العهد من دولة بني مروان وكلهم محتاج، قلت له: وما ذاك اصلحك اللّه؟
فأدنى رأسه مني وأخبرني بكل ما جرى بيني وبينك، فقال المنصور: يا ابن المهاجر اعلم أنه ليس من أهل بيت نبوة إلا وفيهم محدّث وان جعفر بن محمد محدثنا اليوم.
ومع ان الإمام الصادق كان من أثقل خلق اللّه على المنصور وكان يخشاه على ملكه اكثر من أي انسان آخر لأنه اينما ذهب وحيثما حل يجد الناس على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم يتحدثون عن جعفر بن محمد، ومع ذلك فكان من حيث لا يريد ولا يحب يجد نفسه مضطرا لأن يصرح بما يعتقده فيه، فقد قال له في بعض المناسبات: لا نزال من بحرك نغترف وإليك نزدلف نتبصر من العمى ونجلو بنورك الطخيا، فنحن يا أبا عبد اللّه نعوم في سحاب قدسك وطامي بحرك. وقال مرة لحاجبه الربيع: ان هؤلاء بني فاطمة لا يجهل حقهم إلا جاهل لا حظ له في الشريعة.
وقال نوح بن دراج: قلت لعبد الرحمن بن أبي ليلى أ كنت تاركا قولا قلته وقضاء قضيته لقول احد؟ قال لا الا لرجل واحد، قلت: من هو؟
قال: جعفر بن محمد الصادق.
ودخل عليه عمرو بن عبيد وطلب منه ان يعدد له الكبائر وقال له:
احب ان اعرفها من كتاب اللّه او سنّة رسوله، قال له ذلك بعد ان كان الصراع قد بلغ أقصى حدوده بين المعتزلة والخوارج والمرجئة في مصير مرتكب الكبيرة فالخوارج كانوا يصفونه بالكفر بينما يقول المعتزلة انه في منزلة بين المنزلتين، والمرجئة يصفونه بالايمان ويدعون بأن المعصية مهما بلغ شأنها لا تسلبه صفة الإيمان.
فأجابه الإمام (ع) إلى طلبه وعد منها عقوق الوالدين لأن العاق لوالديه جبار شقي، واللّه سبحانه يقول:
(وبَرًّا بِوالِدَتِي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا).
وقذف المحصنات، لأن اللّه يقول:
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
والفرار من الزحف لأن اللّه يقول:
(ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَومُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وقتل النفس لأن اللّه يقول:
ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً).
ونقض العهد وقطيعة الرحم، لأن اللّه يقول:
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).
ومضى الإمام (ع) في تعداد الكبائر مع بيان ادلتها من الكتاب والسنّة حتى أتى على آخرها وعمرو بن عبيد يستمع لبيانه بشوق ولهفة، فلما انتهى الإمام (ع) قال عمرو بن عبيد: هلك من سلبكم تراثكم ونازعكم في الفضل والعلم.
وسأل رجل ابا حنيفة عن رجل وقف ماله للإمام فأي امام يستحق ذلك؟ فقال: المستحق جعفر بن محمد الصادق لأنه هو امام الحق.
وقال فيه عبد اللّه بن المبارك:
أنت يا جعفر فوق المدح والمدح عناء انما الأشراف ارض ولهم أنت سماء جاز حد المدح من قد ولدته الأنبياء.
وجاء في مناقب ابن شهر اشوب ان زيد بن علي (ع) كان يقول: في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه وحجة زماننا ابن اخي جعفر بن محمد لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه.
وقال الشهرستاني في الملل والنحل: كان أبو عبد اللّه الصادق ذا علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة وزهد في الدنيا وورع تام عن الشهوات وقد اقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه ما تعرض للخلافة قط ولا نازع فيها احدا ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمح في شط ومن تعلى الى ذروة الحقيقة لم يخف من خط ومن أنس باللّه استوحش من الناس وبرىء من الرجعة والبداء والتناسخ والغلو والتشبيه.
الى غير ذلك مما قيل فيه ومن اراد ان يستقصي جميع ما قيل فيه ممن عاصره وتأخر عن عصره يخرج بكتاب مستقل في هذا الموضوع بالذات.
اضف تعليق