هذه النفس الانسانية تحمل صفات الخير كما تحمل نزعات الشر، وحسب البرنامج السماوي، بذل النبي الأكرم جهده لتقويم هذه النفس من خلال التزكية، كما يقول آية الله السيد محمد رضا الشيرازي رحمه الله، في إحدى محاضراته عن سيرة حياة النبي الاكرم، بل ويعد النجاح في عملية التزكية لدى البعض...
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران، الآية144)
واجه رسول الله، صلى الله عليه وآله، في مسيرته الرسالية تحديين على الصعيد الاجتماعي؛ الاول: الكفر، والثاني: النفاق.
التحدي الأول؛ رغم قساوته، انحنى أمام عاصفة الرسالة والإيمان، ولم يبق من ابتاعه إلا الفلول، حتى بات من المعيب على الانسان العربي في الحجاز أن يُعرف بأنه كافر، او مشرك يعبد الأصنام، إنما هو المسلمين، يعبد الله –تعالى- وحده، ويصلي خلف النبي الأكرم، ويلتزم ببعض الاحكام الاسلامية، وما ساعد المجتمع على تخطّي مرحلة الكفر بسهولة، وأن يكون الدخول {في دين الله أفواجاً}، هو اعتماد النظام الاسلامي على ظاهر التديّن، وعدم الخوض في مكامن النفس، ومطويات النوايا خلال التعاملات بين الافراد في مسائل مختلفة، وقد أكد رسول الله على هذا المبدأ في زجره لخالد بن الوليد في حادثة الإغارة على تلك القبيلة التي أسلم اصحابها قبل هجومه عليهم، بذريعة أنهم أسلموا خوفاً من السيف، فقتل أحدهم، فقال له رسول الله: "هلا شققت عن قلبه"؟!
بقي التحدي الثاني ليس أمام شخص رسول الله، وحسب؛ بل وأمام الرسالة كدين ونظام سماوي للحياة، وهو؛ النفاق، ابتلي به الأوصياء من بعد رسول الله، فالبعض يُظهر الإيمان ويستبطن التشكيك والنفي، بيد ان هذه الظاهرة الاجتماعية –النفسية في عهد رسول الله كانت لها آثارها الخطيرة في فكر الأمة على مر الزمن كونها اسهمت في كتابة التاريخ الاسلامي بغير ما أراده صاحب هذا التاريخ، وهو النبي الأكرم، الى درجة أن يكون اتخاذ بعض المواقف التشكيكية او عصيان أمر النبي من قبل بعض "الأصحاب"، أمراً طبيعياً!
وثمة حقيقة لابد من الاشارة اليها في هذه المقدمة، أن المسلمين في السنة الثامنة للهجرة، وخلال ثمان سنوات فقط من عمر الدولة الاسلامية، تحولوا الى قوة عسكرية وسياسية كبرى في الحجاز، حتى بلغ تعداد المسلمين المشاركين في فتح مكّة حوالي عشرة آلاف رجل، بما لم يشهده العرب من قبل هكذا تعبئة لصالح جهة واحدة، او شخص بعينه، ولكن المشكلة كانت في أنهم "غثاء كغثاء السيل"، حسب وصف النبي الأكرم نفسه.
وطيلة السنوات التي عاشها النبي الاكرم بين المسلمين في المدينة، سجل لنا التاريخ مواقف عدّة تكشف عن عمق أزمة الطاعة لدى البعض، وهشاشة الإيمان في نفوسهم، ففي المدينة وجد المسلمون انفسهم امام استحقاقات حضارية كبرى يتوجب عليهم الالتزام والتفاني وبذل التضحيات لنشر مبادئ وقيم الاسلام، بيد أن عقبتين –من جملة عقبات- كانت تحول دون انصهار هؤلاء في بوتقة الايمان والاسلام بشكل كامل:
العقبة الأولى: المشكلة النفسية
قدم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، مصاديق عملية لما جاء به من عند الله –تعالى- من أحكام وقيم، وكيف أنها تنقذهم من المحن وضنك العيش، والقلق، والخوف، وتنقلهم الى رحاب الرفاهية، والعزّ، والقوة، والكرامة الانسانية، فقد تذوقوا طعم الأخوة، والمساواة، والعدل، والحرية، وغيرها من القيم السماوية التي تلامس واقع الانسان، وتجعله يستشعرها بكل حواسه، مع كل ذلك، تبقى ثغرة في داخل الانسان تهدد الايمان بكل هذه القيم السامية والنافعة له، وهي "نفسه التي بين جنبيه"، والتي وصفها النبي الأكرم بأنها أعدى أعداء الانسان.
هذه النفس الانسانية تحمل صفات الخير كما تحمل نزعات الشر، وحسب البرنامج السماوي، بذل النبي الأكرم جهده لتقويم هذه النفس من خلال التزكية، كما يقول آية الله السيد محمد رضا الشيرازي رحمه الله، في إحدى محاضراته عن سيرة حياة النبي الاكرم، بل ويعد النجاح في عملية التزكية لدى البعض من الأصحاب بأنه نوعاً من المعجزة، "كما يُعد أبو ذر الغفاري وسلمان من معاجز النبي، صلى الله عليه وآله، وبملاحظة النفوس الجاهلية والروحيات التي كانت سائدة آنذاك، وتلك النقلة التي نقلها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، نعرف قيمة معاجز الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله"، بالمقابل نجد فشل البعض الآخر في تزكية انفسهم وهم على مقربة من النبي، يسمعون كلامه ويتعاملون معه ليل نهار.
مثالٌ واحد – من مئات الامثلة- عندما انتهى النبي الأكرم من مصالحة مشركي مكة في الحديبية على أن لا يدخل المسلمون الى مكة إلا بعد مرور عام كامل، مع بنود اخرى وردت في الاتفاقية، اعترض طريقه أحدهم بالقول: ألم تقل لنا أننا سندخل مكة ونحج هذا العام؟! أجابه النبي الأكرم بكل هدوء: وهل قلت لك سنحج هذا العام؟! فسكت.
وكان الاعتراض واضحاً على توقيع الهدنة "الصلح" مع مشركي مكة، فكيف يوقع انسان مسلم –كما يتصور- وثيقة عهد مع انسان كافر ومشرك، وربما سيعيب عليه الناس ممن يعرفونه في مكة بأنك اسلمت مع محمد، و فضلت عبادة الواحد الأحد على الاصنام، ثم اصبحت مع من يوقع الاتفاق مع عبدة الأصنام! وإذن؛ لا خيار سوى السيف، والحرب، وإراقة الدماء.
العقبة الثانية: الحنين الى الجاهلية
لنتصور جمعٌ من المسلمين ممن قرأوا القرآن وما فيه من قيم ومبادئ انسانية، وبينهم نبيهم، وهو خاتم الانبياء، ثم يدخل أحد الاصحاب من غير العرب، وهو سلمان المحمدي –الفارسي كما يسميه البعض- فافسح له الصحابة المجال ليأخذ مكانه في صدر المجلس، ثم دخل أحدهم المجلس، وما أن وقعت عيناه على سلمان حتى قال فوراً: "ما لهذا الأعجمي قد تصدر مجلس العرب"؟! فكان الموقف الغاضب من النبي الأكرم الذي صعد المنبر وقال: "إنّ الناس من لدن آدم إلى يومنا هذا كأسنان المشط، ألا إنه لا فضل للعربي على الأعجمي ولا للأبيض على الأحمر، إلا بالتقوى؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وفي أول غزوة للمسلمين يرجون تحقيق النصر وتعزيز موقفهم العسكري والسياسي والاجتماعي أمام المشركين لأول مرة، متحدين كل عوامل الضعف من قلّة في العدد، وشحة في السلاح، فجاء النبي الأكرم الى اصحابه يستشيرهم في أمر خوض القتال مع قريش، فقام أحدهم وقال: "يا رسول الله، إنها والله قريش وعزّها، والله ما ذلت منذ عزت، وما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزّها أبدا ولتقاتلنك، فاتهب لذلك أهبته، وأعدّ لذلك عدته"، ولكن؛ لننظر ما قاله المقداد: "يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا، وشهدنا أن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس (شجر كبير الشوك) لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
لقد عاش بعض الصحابة ردحاً طويلاً من الزمن الى جانب رسول الله، واشتركوا معه في غزواته وحروبه، وأطاعوه في بعض ما أراد منهم، ولكن طاعتهم له لم تنطلق من الايمان والتسليم المطلق، بقدر ما كانت من قناعاتهم الخاصة بأن ما يقومون به لا يتعارض مع ما يضمرونه في نفوسهم، ولذا نجد التاريخ يسجل مواقف مخزية تكشف هذا النوع من الايمان في خضم المعارك، وفي الساعات الحاسمة فيظهر الجُبن والتخاذل كما حصل في معركة أحد، وفي غزوة حُنين وغيرها من المعارك التي ذهبوا بها "عريضة".
ولعل من ابرز الطاعات المصطنعة ما أظهروه في بيعة الغدير، حيث اندفع الجميع لمبايعة أمير المؤمنين على الولاية والخلافة من بعد رسول الله في ذلك اليوم المشهود، ثم انقلبوا على اعقابهم بعد ساعات من غياب النبي الاكرم عنهم، مما يمكن القول أنهم كانوا ينتظرون ساعة الغياب هذه، ولذا لم يحضر جنازة النبي الاكرم، سوى الصفوة من الاصحاب الى جانب أمير المؤمنين، عليه السلام.
خاتم الانبياء، ورسول الرحمة للعالمين، وليس للمسلمين وحسب، يغمض عينيه في مثل هذه الايام وقد ختم لقائه ببعض الاصحاب بالعصيان وعدم الطاعة في موقف غاية في الغرابة والدهشة، يصفها عبد الله بن عباس بأنها "رزية الخميس، أن يطلب النبي من اصحابه دواة وكتف فلا يعطونه"، وأكثر من ذلك يتفوهون بما يظهر قناعاتهم الحقيقية، وما كانوا يكتمونه طيلة السنوات الماضية.
اضف تعليق