ربما لا تكون صدفة؛ تزامن اليوم الذي يولد فيه الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، مع أيام شهر رمضان المبارك في السنة الثالثة للهجرة، لأن شهر الصيام، عبارة عن دورة اختبارية على الصبر والبصيرة والاستقامة والتكامل في جوانب عديدة من حياة وشخصية الانسان. فيما نلاحظ أن الاجيال المتعاقبة على موعد مستمر مع الاختبار بشخصية امامها الثاني، كونها اقترنت مع حادثة استثنائية في تاريخ الامة، ألا وهي "الهدنة" مع "الفئة الباغية"، وكيف تقرأ هذه الشخصية العظيمة بالشكل الصحيح، وتستفيد من تجربتها في ساحة المواجهة والمعترك الحضاري؟.
فعندما تقترن المواجهة الساخنة والتضحية والشهادة مع شخصيات أهل البيت، عليهم السلام، في أذهان الناس، لاسيما المؤمنين، فان المتوقع دائماً، مشاهد البطولات والملاحم والمواقف الصارمة، كما حصل مع أمير المؤمنين، وابنه الحسين، عليهما السلام، وحتى سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وهذه تمثل نقطة قوة تضيف زخماً معنوياً للكيان الشيعي على طول الخط، بالمقابل، نلاحظ ثمة محاولات من البعض لتصوير شخصية الامام الحسن، عليه السلام، على انه كان بعيداً عن هذه الملاحم والبطولات، والسبب في ذلك، تمكن معاوية من شراء الذمم والولاء بالأموال وبالخديعة والتضليل.
وبما أن الحزب الأموي، كان يشكل حجر عثرة أولى وكبيرة في طريق الرسالة، فان تفتيتها كان يمثل ايضاً الهدف الكبير للرساليين والمؤمنين من رحيل رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكان أهل البيت، عليهم السلام، يراقبون تحركات هذا الحزب (الأسرة الأموية) عن كثب ويرصدون كل موقف وحركة لهم، ولم يدعوا لهم أية فرصة للظهور والتسيّد على حساب الحق والفضيلة وكل القيم التي جاء بها الرسالة المحمدية. حتى أنه ينقل في التاريخ بأن أبا سفيان جاء الى الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، بعد حادثة السقيفة وقد شهر سيفه وأعلن ولائه له، عليه السلام، إن أعلن الحرب ضد الوضع السياسي الجديد. لكن الامام استصغر قدره ومستوى تفكيره وبيّن له أن ليس بهذا المستوى الذي يتصور، بأن ينزلق في مستنقع "حرب أهلية دامية" للحصول على مكسب سياسي، كما يحصل اليوم.
وفي عهد الامام الحسن، عليه السلام، كانت الظروف الاجتماعية والسياسية كلها تنبئ عن سيطرة معاوية على الموقف العام، بسبب التخاذل والانهزامية التي ظلت السمّة الملازمة لأهل الكوفة منذ عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، في حربهم مع جيش معاوية، مما يعني أن الجيش الذي تسلّم قيادته الامام الحسن، عليه السلام، كان يحمل كل مواصفات الهزيمة والتخاذل، لاسيما وأن معاوية، بدأ حملة جديدة في مسار الحرب، بشراء الذمم والولاء بآلاف الدراهم والدنانير، شملت قادة عسكريين ورواة حديث وشخصيات بارزة، وحتى جنود عاديين.
لذا فان تحقيق النصر الحقيقي على الفئة الباغية، كان خارجاً عن قدرات وامكانات الجيش المتشكل من أهل الكوفة، وهذا ما جعل مسألة الهدنة والتخلّي عن الحكم، واقعاً مفروضاً على الإمام الحسن، عليه السلام، فيما كانت مرّة للغاية على أصحابه والمقربين منه، بيد أنه، عليه السلام، حوّل هذا الواقع المرير الى فرصة جديدة للرسالة بأن تمضي قدماً في طريق البناء والإصلاح، فمن خلال التطور السياسي الجديد، أراد ان يكسب الوقت – إن لم يكسب الحرب- لإعادة بناء القاعدة الجماهيرية ورصّ صفوف النخبة والصفوة من الاصحاب، وعدم التفريط بهم في مواجهة عسكرية خاسرة.
من هنا يتجلّى الدور الكبير والأساس للإمام الحسن في النهضة الكبرى ضد قوى الانحراف والطغيان الأموي، فقد أثبت الباحثون حقيقة هذا الدور، عندما يتحدثون عن مكاسب نهضة الامام الحسين، عليه السلام. وقد جاء في كتاب "ثورة الامام الحسن، عليه السلام"، لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- بأن "مسؤولية الامام الحسن، عليه السلام، كانت مهمة صعبة جداً، وربما أصعب من مسؤولية الامام الحسين، عليه السلام، وذلك لأن مسؤولية الإعداد أصعب من تفجير النهضة والقيام المسلح...".
ولنا أن نقول: أن الارضية الاجتماعية والسياسية التي سبقت تحرك الامام الحسين، عليه السلام، باتجاه العراق، وتحديداً آلاف رسائل البيعة والولاء من أهل الكوفة، بحد ذاتها تمثل ثماراً من ذلك الإعداد المسبق للثورة على الحكم الأموي الذي كشف المسلمون فساده، من خلال سلوك وسياسة رموزه وتحديداً معاوية ومن بعده ابنه يزيد. والأهم من ذلك النخبة الطيبة والبقية الباقية من المؤمنين الخُلص من أهل الكوفة الذين انضموا الى معسكر الامام الحسين، عليه السلام، مثل حبيب ابن مظاهر ومسلم بن عوسجة وآخرين، كلهم كانوا ضمن معسكر الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، من قبل. فان الدور الذي كان ينتظرهم، هو في كربلاء، وليس في الكوفة، ولحماية الدين بأكمله من الانحراف والضياع، بينما تكفّل الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، لوحده بالوقوف أمام مكر وخديعة معاوية، عندما أوهم الناس بأنه الأجدر بالخلافة، بقوة المال والسلاح وايضاً العنف والقسوة. ولعل هذه تكون قمة في التضحية والفداء من إمام فذّ، قاتل بصمت وهدوء لإلحاق الهزيمة المعنوية بعدوه عندما كشف كل زيفه وأماط اللثام عن وجهه الحقيقي أمام المسلمين.
إن المواقف الانسانية التي سجلها التاريخ للإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، والتي يندر ان تحدث في التاريخ البشري، من حسن السيرة والتعامل مع الصديق والعدو، وسمة البذل والعطاء اللامحدود للسائلين. كانت فقرة أخرى في النظام التربوي الذي اتبعه في عهده، فمن ذلك السائل الذي فوجئ بأكوام الدراهم تترى عليه قبل ان يسأل الإمام شيئاً، او ذلك الرجل الشامي الذي صادفه، عليه السلام، في احدى الطرقات، ولمجرد ان رآه بدأ بشتمه وشتم أبيه أمير المؤمنين، عليهما السلام، وكانت نهاية الموقف المذهل والعجيب، أن يتحول ذلك الرجل من ناصبي ومبغض، الى موالي ومحب لأهل البيت، عليهم السلام.
هذه المواقف وغيرها من الامام الحسن، عليه السلام، هي التي أوجدت الشريحة المؤمنة في المجتمع الاسلامي والتي غذّت التحركات والثورات ضد الحكم الأموي الفاسد، بل وتوارثتها الاجيال، حتى وصلت الينا، وهي غيض من فيض الخُلق الرفيع المتفرع من الخلق النبوي الكريم.
اضف تعليق