عندما بكى رسول الله في نهاية خطبته الخاصة بشهر رمضان المبارك، وسأله أمير المؤمنين، وكان بالقرب منه: مِمّ بكاؤك يا رسول الله؟ فقال له: مما يستحلّ منك في هذا الشهر، وأخبره بأنه سيتعرض لحادثة اغتيال تودي بحياته، فسأل أمير المؤمنين على الفور: "وفي سلامة من ديني...
"عليٌ مع الحَقّ والحقُّ مع عليّ". رسول الله، صلى الله عليه وآله
هل كان لأحد في التاريخ البشري حقٌّ بوزن الحق الذي كان لأمير المؤمنين، عليه السلام، ثم يتنازل عنه؟
أي انسان يعد نفسه محقاً وفق الوثائق والوقائع لديه، سيبذل قصارى جهده لنيل حقه، سواءً كان الحق مالاً، او عقاراً، او منصبا، او حتى فرصة عمل، فما بالنا اذا كان الامر يتعلق بحكم بوزن الخلافة في عهد أمير المؤمنين، حيث كان اسم "الخليفة" او والي، يسيل له اللعاب لما يمكّن صاحبه من التصرف بالاموال والممتلكات والجواري لبقاع واسعة من الارض، وقد كانت معظم البلاد الاسلامية آنذاك واحات خضراء معطاءة، أبرزها الحجاز، والكوفة، والبصرة، والشام، ومصر، والري، مما كان يدفع "الصحابة" لفعل المستحيلات للحظوة بواحدة من هذه الكعكات الشهية –حسب رؤيتهم- إلا رجلاً واحداً، هو؛ علي بن أبي طالب، عليه السلام.
وحسب الروايات التاريخية فان أمير المؤمنين حصل على حق الخلافة والحكم من رسول الله أكثر من مرة، كان آخرها؛ الغدير، فقد كانت المرة الاولى في مكة، وفي الايام الاولى من بزوغ فجر الرسالة، وفي أوج المواجهة الدامية في المشركين، أعلن النبي وأمام ابناء عشيرته (بنو هاشم) بأن علياً من يخلفه في نشر الاسلام وتجسيد تعاليم الاسلام وأحكام الدين، وكتب الحديث زاخرة بأحاديث عن النبي الأكرم تؤكد للمسلمين، ولاسيما المقربين منه، بأن أمير المؤمنين "بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي"، ويكفينا الحديث المتواتر والمتفق عليه لدى المسلمين كافة: "عليٌّ مع الحق والحقّ مع علي"، فهو بدلالاته العميقة والواسعة يكشف سمو منزلته، و ايضاً مظلوميته، والأهم منهما؛ حسن تصرفه مع هذا الحق الإلهي العظيم.
هل الحق قضية شخصية؟
عندما بكى رسول الله في نهاية خطبته الخاصة بشهر رمضان المبارك، وسأله أمير المؤمنين، وكان بالقرب منه: مِمّ بكاؤك يا رسول الله؟ فقال له: مما يستحلّ منك في هذا الشهر، وأخبره بأنه سيتعرض لحادثة اغتيال تودي بحياته، فسأل أمير المؤمنين على الفور: "وفي سلامة من ديني"؟! قال له رسول الله: نعم؛ في سلامة من دينك، فالمعيار في الحقوق ليست الذات، وإنما الثوابت والقيم هي التي تعطي الحق والحقوق مصداقيتها، وإلا رب انسان مُحق استحال ظالماً فخسر كل شيء.
وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه شخصٌ معروف في صدر الاسلام مثل؛ الزبير بن العوام، ذلك الصحابي الذي حمل امير المؤمنين سيفه بعد معركة الجمل وقال: "طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله"، وهو ابن عمّة النبي، ابن صفيّة بن عبد المطلب، ومن أشد المدافعين عن رسول الله، وايضاً عن أمير المؤمنين في حادثة السقيفة، حيث بقي وحيداً شاهراً سيفه معترضاً على الانقلاب الحاصل قبل أن يتم اسكاته.
هذه المواقف والخصائص عدّها الزبير حقّا مسلمّاً له لابد أن يتحول الى منصب او مكافأة مجزية، فجاء الى أمير المؤمنين –ومعه طلحة- يطلب منه ما كان يحصل عليه من امتيازات في عهد أبي بكر وعمر، فسأله أمير المؤمنين، كيف كان يقسّم رسول الله بيننا؟ فسكت، ثم سأله: أ سيرة رسول الله أولى بالاتباع أم سيرة غيره، فقال بل سيرته، صلى الله عليه وآله، فقال له: وأنا أقسم الاموال بالسوية بين جميع المسلمين مثل رسول الله، ثم تحدث عن سابقيته وجهاده وقرابته فقال له أمير المؤمنين: "أسابقتكما أسبق أم سابقتي؟ قالوا: لا بل سابقتك، فقال أ قرابتكما أقرب إلى النبي أم قرابتي؟ قالا: لا بل قرابتك يا أمير المؤمنين، فقال: فعناؤكما في سبيل الله أكثر أم عنائي؟ فقالوا: لا بل عناؤك يا أمير المؤمنين، فقال الإمام: أنا وأجيري هذا سواء في المال".
وهذا ما دفعه لأن يبحث عن حقّه مع اصحاب المكائد والدسائس من الأمويين الموتورين من الإسلام وفي مقدمتهم مروان بن الحكم، ليستدرجوه مع آخرين لحرب الجمل، ويتجهوا الى البصرة وينهبوا بيت المال ويقتلوا صاحب أمير المؤمنين؛ عثمان بن حنيف بتلك الصورة البشعة، ثم يواجهوا جيش أمير المؤمنين ويتسببوا بمقتل حوالي عشرين الف مسلم، كل ذلك ليصل الزبير ومن على شاكلته الى حقّه!
والغريب أن شخصاً مثل الزبير، فضلاً عن غيره ممن كانوا يعدون انفسهم من المقربين، كيف لم ينتبهوا طيلة سنوات اعتزال الإمام للسياسة وغضّ طرفه عن حقّه المنصوص عليه في الخلافة والحكم، لدوافع وفلسفة هذا الاعتزال، و تكرر غضّ طرفه اكثر من مرة بعد موت ابي بكر، فيما كان الآخرون يقتتلون عليها وينحرون القيم والمبادئ والاخلاق والانسانية للوصول الى السلطة والمصالح الخاصة، وجاء في التاريخ أن أحد الاصحاب عندما توفي في عهد الحكام الثلاثة، أرادوا تقسيم تركته فجاؤوا بالفأس ليكسروا سبائك الذهب عنده!
نعم؛ يطلب الإمام أمير المؤمنين بحقّه المشروع بالطرق المشروعة، و ان لا يكون هذا الطلب على حساب أرواح ومصالح الآخرين، وأن يتسبب في أزمات ومعارك يدفع ثمنها الآخرون كما أراد ذلك ابو سفيان عندما جاءه مهرولاً فيما كان الانقلابيون يعدون الخطة للاستيلاء على مقدرات الأمة في السقيفة، فقال له: لأملأن الارض لك خيلاً ورجالاً! و وعده بالانصار والمقاتلين بين يديه لاستعادة حقه بالخلافة، فرفض الإمام بشدّة كاشفاً عن نواياه الحقيقية في تفجير الحرب الداخلية وتقويض دعائم الاسلام ليكون هو المنتصر في النهاية ويعود بالجاهلية الى سابق عهدها.
ليس هذا وحسب؛ بل كان أمير المؤمنين يتطلع الى حقوق الناس ومصالحهم، فعندما جاءه بعض اصحابه طالباً منه أن يبذل الاموال والامتيازات على "اشراف قريش ممن تخاف فراره الى معاوية، فقال لهم: "أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ، لَا وَ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَ لَاحَ فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ، وَ اللَّهِ لَوْ كَانَ مَالُهُمْ لِي لَوَاسَيْتُ بَيْنَهُمْ وَ كَيْفَ وَ إِنَّمَا هُوَ أَمْوَالُهُم"، بمعنى أن قبول وجود معاوية في الحكم لساعات أو أيام يمثل جوراً بحق الأمة، فمن حقّها أن تعيش وترفل في ظل الاسلام وقيم السماء التي ضحى من اجلها رسول الله، وليست قيم الجاهلية التي سعى لتكريسها معاوية ومن هو على شاكلته.
الالتباس في الحق
جاءه أحد الاشخاص في حرب الجمل وقال لأمير المؤمنين، أيمكن ان تجتمع عائشة وطلحة والزبير على باطل؟! فقال له الإمام، "إنك لملبوس عليك إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، أعرف الحق تعرف أهله".
وهذه تحديداً كانت قاتلة الأمة الاسلامية في تعاملها مع حق أمير المؤمنين، وهو ما كان يخشاه منذ أيام رسول الله، وقطعاً كان، صلى الله عليه وآله، عالماً بما سيجري، فقد كان يرى في الآلاف المؤلفة ممن بايعه في ظهيرة يوم الغدير بأن كلمات البيعة لم تكن سوى لقلقة لسان، فمعظمهم لم يكن يفقه معناها وما يترتب عليها، أما القلّة من العارفين فكان بين مؤمن وبين منافق أظهر الولاء والحب، وأضمر البغض والعداء الى حين.
فكانت مسؤولية الأمة في رفع الالتباس عن رؤيتها وتقييمها للأمور، لتعرف الحق من الباطل، ومن هو على حق ومن هو على باطل؟ فهل كان على أمير المؤمنين ان يفكر بدلاً عن افراد الأمة ويقرر لهم؟! إنه البلاء المبين والاختبار التاريخي الكبير في القدرة على رفع خطوتين دونهما الفلاح والنجاة: الاولى: التخلّص نهائياً من إرث الجاهلية؛ اجتماعياً وثقافياً وكل اشكال العلاقة بها، فالبيعة لأمير المؤمنين لا تنفع الدين اذا كانت عالقة بها العصبية القبلية والعنصرية، والاحتكام الى لغة السيف والقوة عل طول الخط.
أما الخطوة الثانية؛ فهي على الذات والمصالح الشخصية وحب الأنا التي نشأ عليها معظم رجالات قريش وغيرهم من عرب الحجاز، وعدم القبول بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات مع الآخرين من شرائح المجتمع الاخرى.
هذه الخصلة بالذات بقيت متجذرة عند الكثير، وما تزال، فهي أحد اسباب انقلاب أهل الكوفة على الامام الحسين، عليه السلام، والتنكر للرسائل والدعوات له بالقدوم وأنه يقدم على "جند لك مجندة"، فكانت صورة الحق في خلافة الامام الحسين أنها تضم المصالح والامتيازات والعيش الرغيد، وعندما رأوا أنهم أمام طريق ذات الشوكة، انقلبوا على اعقابهم فخسروا الدنيا والآخرة.
لقد وجد أمير المؤمنين حقّه في الخلافة والحكم متعلقاً بمصير الأمة والدين، وأنه ربما يمضي في طريق مصبوغ بالدماء حتى يكون هو الخليفة بعد رسول الله، فأبى لنفسه منصباً كهذا بهذا الثمن، لذا فضّل ان يبقى إماماً و ولياً للمؤمنين بما لا يعترضه في هذه المرتبة الشريفة أحد، حتى وإن كان على بضعة أفراد، فالقلّة والكثرة ليست معياراً في معادلة الحق الإلهي، وهكذا التزم سائر الأئمة الاطهار على هذا النهج، بل إنه، صلوات الله عليه، دفع ثمن الالتزام به في محراب صلاته ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان في تلك السنة المفجعة ليضع حقّه في الحكم بين اصابع القدر من جهة، وبين مستوى وعي وإيمان الامة التي تركته وحيداً في تلك اللحظات تنتظر منه أن يتخذ هو الاجراءات الامنية والسياسية لمواجهة العدو اللدود للإسلام (معاوية) فراح شهيداً للحق وخسرته الأمة وما تزال.
اضف تعليق