إن الغيب الذي يعده القرآن الكريم من صفات المتقين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، ينشأ وينمو حسب مدى فهمهم واستيعابهم للقرآن الكريم، وسنة النبي الأكرم، ولذا نجد قراءة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، للقرآن الكريم، وايضاً نظرتهم الى السيرة النبوية ليست كقراءة أي انسان آخر مهما أوتي من القربى والايمان...
علي بن جعفر الصادق، عليه السلام، رجلٌ كبير في السن، كان جالساً في المسجد النبوي مع ثلّة من اتباع أهل البيت، فدخل الامام الجواد، عليه السلام، المسجد، فنهض الرجل فوراً وتوجه الى الامام بلا حذاء ولا رداء، وقبل يده وعظّمه، فقال له الامام: اجلس يا عمّ رحمك الله. فقال: يا سيدي! كيف أجلس وانت قائم، فلما رجع علي بن جعفر الى مجلسه أخذ اصحابه يلومونه على ما فعل، ويقولون: انت عمّ أبيه وتفعل به هذا الفعل؟ فقال اسكتوا! اذا كان الله عزّ وجلّ –وقبض على لحيته- لم يؤهل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ا فأنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا عبد.
الموقف الحاسم من عمّ الامام الرضا لمسألة الإمامة تكشف عن حجم الازمة والحرج الذي تعرض له الشيعة بعد استشهاد الامام الرضا وكان ولده الامام الجواد ابن تسع سنين، او سبع سنين، وقد غاب عنه والده لمدة سنتين في رحلته القسرية الى خراسان، بمعنى أنه لم يعاصر أباه سوى اربع سنين، أقل أو أكثر –حسب الروايات التاريخية- وهو ما لم يعهده الشيعة من قبل، لاسيما وأن الفترة التي غاب فيها الامام الرضا عن دار الدنيا في خراسان كانت الامة تشهد حرباً فكرية وعقدية شرسة تهدد الايمان بالصميم، ومن أن ابرز التيارات القوية آنذاك؛ الفكر المعتزلي المتصاعد في بغداد والبصرة، وكانوا يعدون انفسهم البديل الافضل لتمثيل الدين وأحكامه، و انهم اكثر "ثقافة" من المتصوفة والمجسّمة، و أقوم بالدين من الزنادقة والملاحدة الذين ظهروا بقوة في عهد الامام الصادق، الامر الذي استدعى في اذهان الشيعة واتباع أهل بيت رسول الله، ظهور رجل كبير في ظاهره وباطنه يلجم الأفواه بهيبته وعلمه، وهذا ما لم يحصل، إنما قُرنت قضية إمامة الامام الجواد بنبي الله يحيى الذي أتاه الله الحكم صبيا، ومن قبله نبي الله عيسى الذي أتاه الله –تعالى- الكتاب (الانجيل) وجعله نبياً وهو في المهد صغيرا.
لماذا الغيب في عهد الامام الجواد؟
في الوقت الذي كان المأمون العباسي يمدّ يد الودّ والموادعة للإمام الرضا، كانت يده الاخرى تمتد الى رجالات المعتزلة في بغداد مثل ثمامة بن الأشرس، واحمد بن ابي داود اللذي كانا يمثلان الاعتزال البغدادي في البلاط العباسي، يتبادلون سوية الطريقة التي يصوغون بها الدين ومفاهيمه وقيمه بما لا يكلفهم الكثير من عناء الإيمان والمسؤولية إزاء الرسالة والامة، فابتدعوا المذهب العقلي لتفسير كل ما يتصل بالدين، بدءاً بصفات الخالق، مروراً بالقرآن المنزل على النبي الأكرم، ثم الاحكام والشريعة، فكل ما يقتنع به الانسان ويصدقه بشكل ملموس فهو صحيح وإلا لا وجود له، وهو من البدع، ومن أبرز وأخطر ما قالوا فيه؛ نفي الصفات لله -عزّ وجلّ- لأن "الله عالم بذاته، لا بعلم زائد على هذه الذات"، فالصفات التي يعرفها المسلمون عن الله –تعالى- بانه سميعٌ، وبصير، و رزاق، وغيرها إنما تمثل "العلم والقدرة، فمعنى أنه حيّ يعني قادر، ومعنى أنه سميع يعني انه عالم"! (ثورة العقل- عبد الستار الراوي)، وعليه؛ فان الله لا تربطه بعباده رابطة مثل الرزق، والتوبة، والرحمة، والستر والأمان، وكل ما يحتاجه الانسان لصلاح دنياه وآخرته.
والامر الآخر الذي لا يقل خطورة عن السابق؛ الادعاء بخلق القرآن، وإنكار نزوله وفق ظروف وحالات وظروف حصلت منذ بعثة الرسول الاكرم، فلا صحة لشيء اسمه "وحي" ينزل على الرسول، و ان جبرائيل كان يكلم النبي! حتى انهم تنكروا لصريح الآية القرآنية: {وكلم الله موسى تكليما}، بانه –تعالى- "أنشأ كلاماً خلقه في شجرة وخرج منها الكلام فسمعه موسى وفمهه، وكل مسموع من الله مخلوق"! و عليه؛ فلا معنى لديهم بشيء اسمه "كلام الله المجيد"، ولا فضل للنبي في وجود القرآن بين المسلمين سوى تبيانه بعض الامور الغيبية المتعلقة بقصص الانبياء والاقوام السالفة.
إن الإقرار بان الآيات القرآنية نازلة لتنظم حياة المسلمين وتحدد لهم الاحكام والشريعة وكل صغيرة وكبيرة فيما يهمّ دنياهم وآخرتهم يعني الاتصال المباشر للعبد بالله –تعالى-، ويكون مصداق آيات عدّة في مسؤولية الانسان عن اعماله في الدنيا، { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}، وأن لا عذر له امام العلم والتعلم والتفكر: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }، وحتى لا عذر له امام مشاريع التغيير والاصلاح في واقعه الفاسد: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، وفي هذا الاطار العديد من الآيات التي تحكم الربط بين العبد وربه، حتى في مسألة الدعاء ورجاء الاستجابة والمثوبة وحل المعضلات والمشكلات، بل واكثر من هذا؛ حل المشاكل العظمى على صعيد الشعوب والأمم عندما يبين القرآن تجارب الأمم الصاعدة والمتقدمة، و مآلات الكفر والعصيان والطغيان.
هذه المنظومة المعرفية المتكاملة لا تروق للحكام الذين يعدون انفسهم أولياء نعمة الناس، وفي ايديهم حياتهم وموتهم، لاسيما شخصٌ يدعي الذكاء والحنكة مثل المأمون العباسي، فبعد دسّه السم للامام الرضا، وفيما كان الامام الجواد في المدينة، أعلن الاعتزال المذهب الرسمي للدولة الاسلامية، وهي المرة الاولى التي يختار حاكم اسلامي –خليفة- مذهباً خاصاً به يتعبد به الناس دون المذاهب الاخرى، فأصدر تعميماً على كل الولايات والامصار أن "اعرضوا على الناس خلق القرآن الكريم فمن أبى فاضربوا عنقه"!
فكيف يردّ الامام الجواد على هذه الموجة العارمة من التشكيك بركيزة اساس في العقيدة وهي؛ الايمان بالغيب؟
لم يرد الامام بنفس سلاح العدو، كأن يعرض للناس المذهب الجعفري –مثلاً- وأن جده الامام الصادق صاحب مدرسة وجامعة فقهية خرجت الفقهاء والعلماء و اصحاب المذاهب، كما نتحدث به اليوم لمواجهة من لا نطيق مواجهتهم من اصحاب المذاهب والفرق ممن نعدهم بعيدين عن روح الاسلام وقيم السماء، وإنما واجههم بسلاح الغيب والتسديد الإلهي لتعزيز الايمان في نفوس المسلمين جميعاً، حيث تقول الروايات انه أجاب عن اكثر من ثلاثة آلاف مسألة فقهية.
العمل الصالح معيار الولاية الإلهية
يتسائل الكثير عن علّة اختيار اشخاص بعينهم دون غيرهم ليكونوا انبياء و رُسل، او أئمة؟ بل في تاريخ الأئمة المعصومين هناك الكثير ممن كانوا من ابناء علي وفاطمة لكن لم يكونوا أئمة معصومين، سوى الأئمة المعروفين لدينا، وكما مرّ آنفاً في شقيق الامام الكاظم، وعمّ والد الامام الجواد الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده الشريف، او زيد ابن الامام زين العابدين، واسماعيل ابن الامام الصادق، وغيرهم كثير؟
صحيح انها إرادة الله ومشيئته في عباده، بيد أن المسألة ليست دون سبب "فليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة، وخلقه يستوون عنده في أنهم جميعاً عباد الله مربوبون، بيده خَلْقهم وزرقهم وموتهم ونشورهم، إنما بالاعمال يتفاضل الخلق، فالاعمال الصالحة هي معراج البشر الى الله، بينما السيئات تردهم الى أسفل سافلين، ولولا أن العمل وحده يميز بين الانسان وبين نظيره الانسان، ولولا أن الارادة الحرة تصنع العمل، موهبة يشترك فيها الناس جميعاً، اذن؛ لكان الله ظالماً لعباده –حاشاه- أو كان بعيداً عن الحكمة في أفعاله سبحانه وتعالى، فلم ينتخب الله أنبياءه عبثاً ولا حبوة، إنما علم أين يضع رسالته، فوضعها في أفئدة غمرها اليقين والصبر، وعلى أكفّ سالت بالاحسان والعطاء، وفي حجور طهرت من الرذيلة والفساد". (معالم الفكر الرسالي المسؤول- أحمد ناصر).
ولكن ما هو العمل الصالح الذي يتحدث عنه الكثير؟
يقول العلماء إن العمل الصالح هو الطريق الوحيد الى السعادة، وإنه العمل الذي نيبع من الايمان الصادق ويتحدد في مسار القيم الرسالية التي وافقت آيات الله وسنّة رسوله، وهذا المفهوم من العمل يجعله متصلاً بالغيب بشكل طبيعي، إذ القيم بالاساس ليس اجساماً يتحسسها الانسان ويتلمسها بيده، مثل؛ الصبر، والعطاء، والعفو وغيرها، فمن دون وعي للغيب ربما يندفع الانسان للمساواة بين العمل الصالح ونقيضه.
وهنا يظهر يقفز سؤال آخر؛ وكيف يتكوّن هذا الوعي؟
إن الغيب الذي يعده القرآن الكريم من صفات المتقين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، ينشأ وينمو حسب مدى فهمهم واستيعابهم للقرآن الكريم، وسنة النبي الأكرم، ولذا نجد قراءة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، للقرآن الكريم، وايضاً نظرتهم الى السيرة النبوية ليست كقراءة أي انسان آخر مهما أوتي من القربى والايمان، وكذا الحال في اسلوب العلاقة مع الله –تعالى- ولعل الأدعية والاذكار المروية عنهم، عليهم السلام، تؤكد هذه الحقيقة، وحتى طريقة العيش؛ "وأنكم لا تقدرون على ذلك، فأعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد"، وهذا ما يدعونا اليه الأئمة بأن نكون في طريق التكامل ما استطعنا الى ذلك سبيلا، ويكون المسدد والموفق هو الله –تعالى- من خلال العمل والتعلّم ثم العطاء والتواصل مع ابناء المجتمع، {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، فالله –تعالى- لم يزقّ المؤمنين العلم، بل هم الذين سهروا الليالي، وأجهدوا انفسهم لطلب العلم النافع فيرفعهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وهذا ايضاً؛ ما كان يدعو اليه الامام الجواد، عليه السلام، خلال فترة إمامته القصيرة، فهو كآبائه الاطهار يمثلون مدرسة للعلوم والآداب، بيد أن قلق الحكام على كراسيهم، و خشية وعاظ السلاطين على امتيازاتهم، دفع بالامام الجواد الى نهاية الطريق بسرعة حيث استشهد وهو ابن خمسة وعشرين سنة، وكان السبب حسب المصادر التاريخية في احدى مجالس القضاء بحضور المعتصم العباسي عندما جيء بسارق واراد الفقهاء تحديد منطقة قطع اليد تطبيقاً للآية الكريمة، فبعض قال: من طرف الزند، وبعض آخر قال من المرفق، وكان الامام الجواد، عليه السلام، حاضراً دون أن يعقّب بشيء، فطلب منه المعتصم الإدلاء برأيه فأبى بدايةً فألحّ عليه الطلب، فقال بخطأ جميع الاقوال، إنما القطع يكون من مفصل أصول الاصابع ليترك الكف، والحجة في ذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وآله: "السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فاذا قطعت يده من الكرسوع او المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}.
تقول المصادر التاريخية كان من بين الخاسرين والمهزومين في هذا المجلس؛ ابن ابي داوود، احد ابرز القضاة آنذاك، فسعى للوقيعة بالامام الجواد عند المعتصم العباسي، واختلاق تهمة كاذبة على انه يعد الافراد والسلاح للانقلاب عليه وغيرها من الكليشة المعروفة لدى المتزلفين لدى الحكام العباسيين، ويعزو الرواة هذه الحادثة أنها السبب في دسّ السمّ الى الامام الجواد، عليه السلام، واستشهاده.
اضف تعليق