بعيداً عن المكاره والكوارث، ومن أبرز معالم الواقع الحسِن في منهج الغدير، ومنهج أمير المؤمنين، ما أوصى به عامله على مصر؛ مالك الأشتر: الناس صنفان، إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، بهذا المبدأ الانساني العظيم، وبالقيم الاخلاقية والدينية السامية يصنع أمير المؤمنين واقعاً ملؤه الاستقرار والأمان والرُقي...
طلب رسول الله من علي بن أبي طالب أن يعد مأدبة طعام فاخرة تليق ببني هاشم، والمدعويين من أعمام النبي وأبناء عمومته وعشيرته لإبلاغهم رسالة السماء؛ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، ولما استقر بهم المقام، بعد أن أكلوا وشربوا، بدأ النبي الأكرم حديثه بالقول: "ما أعلم انساناً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتكم به، لقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن ادعوكم اليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّ وخليفتي فيكم من بعدي، فلم يتكلم أحد، وقام علي أبي طالب، وكان والده أبو طالب بين الجالسين، فطلب منه النبي الجلوس، فأعاد الطلب ثانية، وثالثة، وفي كل مرة كان علي ينتصب واقفاً، "ولما رأى النبي إحجامهم واصرار علي، أخذ برقبته وقال: إن هذا أخي ووصيّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك محمد أن تسمع لابنك وتطيع". (سيرة المصطفى، السيد هاشم معروف الحسني).
كانت هذه المرة الاولى التي يعلن فيها رسول الله عن خليفته ووليه من بعده، وقد حصل هذا بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية والكتمان خوفاً من بطش المشركين في مكة، ثم أعقبتها مرات عدة يشدد فيها النبي لأبناء الأمة على أن علي ابن أبي طالب، هو الخليفة من بعده، وهو أمير المؤمنين، وكتب الحديث والسيرة والتاريخ مشحونة بروايات لا يماري فيها أحد بأن النبي الأكرم قال لعلي: "أنت أخي ووصي وأنك منّي بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي".
وبعد فترة ليست بالطويلة تخللتها الافراح والأتراح، والانتصارات والكبوات قبل وبعد الهجرة، حانت اللحظة التاريخية الحاسمة ليأمر الله تعالى بشكل مباشر نبيه بإبلاغ الأمة عن مصيرهم الذي يرتضيه لهم من بعد نبيهم الخاتم بحيث لن يضلوا بعده أبدا، فنزلت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، وقبل أن يعلن عن القرار السماوي الحاسم، توجه النبي الى الجموع أمامه ليلقي عليهم آخر الحجج وقال: "كأني قد دعيت فأجبت، اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ثم قال: الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ومؤمنة، وأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه".
وروى الشيخ المفيد في "الارشاد" أن النبي "أفرد خيمة لعلي وأمر الناس بان يدخلوا عليه فوجاً فوجاً و يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلهم، وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه أن يفعلن ذلك". (سيرة المصطفى).
هذه الحادثة تعد من أجلى الحقائق التاريخية التي فرضت نفسها على كتب الحديث والتاريخ، ولكن! ما مكانة هذه الحقائق من الواقع السياسي والاجتماعي الذي عاشه المسلمون منذ تلك اللحظة التاريخية الفاصلة؟ ولماذا لم نر تأثيراً لها في توجيه مسار الاحداث باتجاه الأمن والاستقرار والرُقي الذي رجاه النبي الأكرم حتى آخر لحظات حياته، كما عنته رسالة السماء لهذه الأمة {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.؟
قيمة الحقائق أمام منطق السلطة
ربما من منطلق الفطرة الانسانية السليمة، تُعد الحقيقة أمراً محبباً الى النفوس، ومعياراً يبحث عنه الجميع للتمييز بين الحق والباطل، وبين الكاذب والصادق، وبين الفضيلة والرذيلة، بيد أن نفس هذا الانسان، نراه احياناً –كثيرة- يؤجل التفكير بهذا المعيار ويستحضر مصالح آنية ورغبات مادية ملحّة، فيخسر ما يدعو اليه القرآن الكريم بـ "البصيرة"، فيكون حاله حال المثل الشعبي: "يأكل الخبز بسعر يومه"، وهو ما يعرضه لأخطاء ومشاكل، ثم كوارث، لانه لا يستشعرها ولا يتبصرها إلا عند الوقوع فيها، وهذا ما اكتشفه منذ أزمان بعيدة الحكام وأهل السلطة عندما لووا عنق الحقيقة بمرأى ومسمع من الناس لقاء بعض العطايا والوعود حتى وإن كانت الحقيقة عبارة عن معاجز باهرة وملموسة في عهد الانبياء مثل خروج الناقة من جوف الجبل، وخروج نبي الله ابراهيم سالماً من جوف النيران، والمعاجز الطبية التي قدمها نبي الله عيسى لقومه مثل إحياء الاموات، وشفاء المصابين بأمراض عضال، طبعاً؛ يضاف اليها المعاجز العديدة التي قدمها نبي الاسلام الخاتم، لابناء قومه، كلها لم تشفع لأن تكون وسيلة تحول وتغيير في المجتمع كما فعلت سياسة الأمر الواقع التي اتبعها الحكّام والطامحون للزعامة.
وهذا تحديداً ما فعله من يمكن ان نسميهم بالانقلابيين في "سقيفة بني ساعدة" عندما فرضوا سياسة الامر الواقع مستدلين بذلك على أن "الخلافة الاسلامية الكبرى تنعقد شرعاً، وتصح عقلاً وعرفاً ببيعة نفر قليل من المسلمين"، (فلسفة التوحيد والولاية، الشيخ محمد جواد مغنية)، و أول من أسس لهذا المبدأ؛ عمر بن الخطاب الذي قال: "كانت خلافة أبي بكر فلتة –في بعض المصادر غلطة- وقى الله المسلمين شرها"!
والمثير للدهشة والغرابة تسويق فكرة أن السنّة يؤمنون بالشورى والديمقراطية في الحكم، بينما الشيعة يؤمنون بالتعيين والنصّ الشرعي، بينما الحقائق التاريخية مرة أخرى تقف بالمرصاد لتكشف زيف هذا المدعى وأن الشورى هذه لم يكن لها أثر في ظل سياسة الامر الواقع، وفي تحت ظلال السيوف والتلويح بالقوة والتهديد، وفي كتابه القيّم، يورد الشيخ مغنية مثالاً من أحد ابرز الكتاب الذين لم يألوا جهداً في تسقيط الشيعة في كتبه؛ "فجر الاسلام" و"ضحى الاسلام"، و"بعد مضي عشرين عاماً أصيب بنظره فأملى كتاباً اسماه: "يوم الاسلام"، طبع سنة 1958 قبل وفاته بقليل واعترف فيه بما كان قد أنكره على الشيعة ومن ذلك قوله في صفحة 54: بايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر: انها غلطة وقى الله المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر".
هذه النمط من التفكير ذو الجذور الجاهلية، يذكرنا بما أجاب به الأنصار عندما طاف عليهم أمير المؤمنين، ومعه الصديقة الزهراء، بعد الانتهاء من تشييع جثمان رسول الله، يذكرونهم بما أوصاهم النبي بمن يكون من بعده فقالوا بما ينطبق عليه "عذرٌ أقبح من الذنب"، مضمون الرواية: نعم؛ لو كان ابن عمك حاضراً قبل هذا اليوم لكنّا قبلنا به خليفة وحاكماً، ولكن؛ "سبق السيف العذل"، فقد سبقه آخرون! بمعنى أن أمير المؤمنين، لو كان ترك جثمان النبي الأكرم على الأرض لبعض الوقت، وسارع لتسجيل حضوره فيما يعرف اليوم بالساحة السياسية، وفرض نفسه على الناس بأنه الوصي والخليفة بأمر رسول الله، وأن له بيعة في عنق جميع المسلمين، بمن فيهم الصحابة، لكان قد أسكت الجميع، ولم يسمح لهذا او ذاك أن يتقمّص خلافة رسول الله ويدّعيها لنفسه كذباً وزوراً.
ولكن! لم يفعل ذلك أمير المؤمنين، فهو أميراً على المؤمنين، وليس حاكماً متسلطاً على رقاب المسلمين؛ {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، وهو، كما رسول الله، بل وجميع الانبياء والمرسلينمن السماء، يعدون الحكم والسياسة وسيلة وجزء من الرسالة ومن مهمتهم في بناء الإنسان وصياغة فكره وسلوكه ونظام حياته، وليست هدفاً وغاية يطبقون عليها مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، لذا كان من السهل جداً على الحكام من بعد رسول الله تغيير سنته الشريفة، وإلغاء الكثير من التشريعات والاحكام، بينما أمير المؤمنين، في صلح الحديبية تأبى نفسه محو جملة "رسول الله" وهو يدون نص الاتفاقية مع المشركين، فأخذ النبي الكتاب منه ومحى الجملة بيده وأبقى على اسم "محمد" فقط.
القبول بالأمر الواقع والمآلات الكارثية
جاء في تعريف الأمر الواقع بأنه تطبيق أمر ما على أرض الواقع دون النظر الى كونه مسنوداً بقانون، وهذا ما نشهده في عالم اليوم في حالات مختلفة، مثل فرض لغة على شعب ما، أو نظام حكم، او سياسة اقتصادية معينة، او مسائل حدودية وغيرها من المسائل الاقتصادية والسياسية، وفي معظم الحالات يصطدم هذا الفرض بإرادة الشعوب ومصالحها، كونه جاء من أقبية المخابرات، ومراكز صنع القرار السياسي، وبعد الانقلابات العسكرية، والسياسات القمعية طيلة قرن من الزمن، وسقوط الآلاف من ضحايا الحرية والعدل والمساواة والكرامة الانسانية، نلاحظ اليوم سقوط العالم في كارثة صحية لم ير مثلها من قبل، وقد أثبتت مصادر عدّة أنها ظهرت بفعل فاعل، وأن وراء جائحة كورونا مختبرات الحرب البايولوجية بين قوى كبرى في العالم تتنافس على الهيمنة والنفوذ، اقتصادياً وسياسياً، فمن الذي خولها لتكون المهيمنة على مصائر الناس، بحيث يسقط في اليوم الواحد آلاف الموتى بسبب اصابتهم بهذا الفايروس الغريب والمريب، ويقف علماء الطب حيارى عاجزين عن مواجهته فيتركون صاحبه لقدره؟
وهكذا سائر الحوادث التي نشهدها مؤخراً من حرائق وتفجيرات مدمرة في عديد بقاع العالم، لاسيما في بلادنا الاسلامية فهي نتاج تطبيق سياسة الأمر الواقع المتجاهلة لأمر الشعوب وما تريد وما تفكر به، وهو ما كان يريده أمير المؤمنين من بيعة الناس له يوم الغدير والذي تطبق ليس بعد وفاة رسول الله، وإنما في اللحظات التي أنهال عليه الناس يطالبونه بمد يده للبيعة والقبول بأن يكون الحاكم والزعيم بعد ما شهدوه من مآلات الأمر الواقع طيلة حوالي خمسة وعشرين سنة، فهو لم يفرض نفسه على الواقع مطلقاً، بقدر ما دعا الناس لأن يكونوا مسؤولين عن قرارهم وعن أعمالهم، وبمقدار ما يكونوا مع قيم الحق، يكون واقعهم سليماً وآمناً، بعيداً عن المكاره والكوارث، ومن أبرز معالم الواقع الحسِن في منهج الغدير، ومنهج أمير المؤمنين، ما أوصى به عامله على مصر؛ مالك الأشتر: "الناس صنفان، إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
بهذا المبدأ الانساني العظيم، وبالقيم الاخلاقية والدينية السامية يصنع أمير المؤمنين واقعاً ملؤه الاستقرار والأمان والرُقي.
اضف تعليق