الحلم هو ضبط النفس تجاه مسببات ومثيرات الغضب، والتحكم الإيجابي في الانفعالات الناتجة من حالة الغضب والهيجان. من أبرز الصفات الشخصية عند الإمام الباقر الحلم، فكان يقابل الإساءة بالإحسان، والقطيعة بالصلة، والإهانة بالعفو، والكلام الفظ بكلام لطيف. استطاع بحلمه وحسن أخلاقه أن يغير نفوس وأفكار...
الحلم صفة أخلاقية مهمة، وتعني القدرة على ضبط الانفعالات، والتحلي بالصفح والتسامح تجاه من يتعمد الإساءة والإهانة، وهي بحاجة إلى تدريب حتى تتحول إلى ملَكَة ذاتية عند الإنسان.
ولأهمية الحلم فقد ذكر في القرآن الكريم نحو عشرين مرة في سور متعددة، وقد مدح الله تعالى الحلماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم كما في قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [1] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾[2].
ومما يدل على المكانة الرفيعة للحلم في نظر القرآن الكريم أنه ذكر اتصاف الله تعالى بصفة الحلم في عدد من الآيات الشريفة كقوله تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾[3] وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [4] وقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [5] وقوله تعالى: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[6]... وغيرها من الآيات الشريفة الدالة على أن من صفات الله تعالى الحلم.
وإذا كان معنى الحلم هو الأناة وضبط النفس فإن الحلم بالنسبة إلى الله عز وجل بعني الإمهال وتأخير العقوبة على الذنب.
تعريف الحلم
عرّف الراغب الأصفهاني الحلم بأنه: ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب[7].
فالحلم إذن هو ضبط النفس تجاه مسببات ومثيرات الغضب، والتحكم الإيجابي في الانفعالات الناتجة من حالة الغضب والهيجان.
وقد حثّ الإمام الباقر (عليه السلام) على ضرورة تحلي العالم بالحلم، فقال عليه السلام: «الحِلمُ لِباسُ العالِمِ، فلا تَعْرَيَنَّ مِنهُ»[8]، وعنه عليه السلام قال: «ما شِيبَ شَيءٌ بشَيءٍ أحسَنَ مِن حِلمٍ بعِلمٍ»[9].
صور مشرقة من حلم الإمام الباقر (عليه السلام)
من أبرز الصفات الشخصية عند الإمام الباقر (عليه السلام) الحلم، فكان يقابل الإساءة بالإحسان، والقطيعة بالصلة، والإهانة بالعفو، والكلام الفظ بكلام لطيف. وهو القائل: «إنّا أهلَ البَيتِ نَصِلُ مَن قَطَعَنا، ونُحسِنُ إلى مَن أساءَ إلَينا، فَنَرى وَاللَّهِ في ذلِكَ العاقِبَةَ الحَسَنَةَ» [10].
وقد روي في كتب السيرة والتاريخ صور مشرقة من عظيم حلمه (عليه السلام)، نذكر منها:
أولاً- حلم يفوق الوصف:
قال نصراني للإمام الباقر (عليه السلام): أنت بقر؟
قال: أنا باقر
قال: أنت ابن الطباخة؟
قال: ذاك حرفتها.
قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية.
قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك.
قال: فأسلم النصراني[11].
فهذا الحلم العجيب جعل هذا النصراني يعلن إسلامه، عندما رأى أن أخلاق الإمام الباقر (عليه السلام) وحلمه يفوق الوصف، فهي من صفات الأنبياء وأخلاقهم.
ثانياً- تحول من مبغض إلى محب:
روى الشيخ الطوسي في أماليه بسنده: عن ابن شبل، عن ظفر بن حمدون، عن إبراهيم بن إسحاق، عن محمد بن سليمان، عن أبيه قال:
كان رجل من أهل الشام يختلف إلى أبي جعفر (عليه السلام) وكان مركزه بالمدينة، يختلف إلى مجلس أبيٍ جعفر يقول له: يا محمد ألا ترى أني إنما أغشى مجلسك حياء مني منك، ولا أقول إن أحداً في الأرض أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم أن طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكن أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ، فإنما اختلافي إليك لحسن أدبك!
وكان أبو جعفر يقول له خيراً ويقول: لن تخفى على الله خافية، فلم يلبث الشامي إلا قليلاً حتى مرض واشتد وجعه فلما ثقل دعا وليه وقال له: إذا أنت مددت عليّ الثوب فائتِ محمد بن علي (عليه السلام) وسله أن يصلي عليً، وأعلمه أني أنا الذي أمرتك بذلك.
قال: فلما أن كان في نصف الليل ظنوا أنه قد برد وسجوه، فلما أن أصبح الناس خرج وليه إلى المسجد، فلما أن صلى محمد بن علي (عليه السلام) وتورك، وكان إذا صلى عقب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر إن فلان الشامي قد هلك وهو يسألك أن تصلي عليه.
فقال أبو جعفر: كلا، إن بلاد الشام بلاد برد والحجاز بلاد حر ولهبها شديد، فانطلق فلا تعجلن على صاحبك حتى آتيكم، ثم قام (عليه السلام) من مجلسه فأخذ (عليه السلام) وضوءاً ثم عاد فصلى ركعتين، ثم مد يده تلقاء وجهه ما شاء الله، ثم خر ساجداً حتى طلعت الشمس، ثم نهض (عليه السلام) فانتهى إلى منزل الشامي فدخل عليه فدعاه فأجابه، ثم أجلسه وأسنده ودعا له بسويق فسقاه وقال لأهله: املئوا جوفه وبردوا صدره بالطعام البارد، ثم انصرف (عليه السلام) فلم يلبث إلا قليلاً حتى عوفي الشامي، فأتى أبا جعفر (عليه السلام)، فقال: أخلني فأخلاه.
فقال: أشهد أنك حجة الله على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالاً بعيداً.
قال له أبو جعفر: وما بدا لك؟
قال: أشهد أني عهدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلا ومناد ينادي، أسمعه بأذني ينادي وما أنا بالنائم: ردوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد بن علي.
فقال له أبو جعفر: أما علمت أن الله يحب العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله؟
قال: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام)[12].
ولا شك أن تعامل الإمام الباقر (عليه السلام) الأخلاقي، وحلمه تجاه سوء الأدب الذي تعامل به الشامي مع الإمام، جعله يتراجع عن سوء أدبه وتصرفه غير اللائق مع الإمام، حتى تحول هذا الشامي من عدو للإمام إلى محب له، ومن أصحابه المقربين.
ومما تقدم يتضح أن الإمام الباقر (عليه السلام) استطاع بحلمه وحسن أخلاقه أن يغير نفوس وأفكار وقناعات أعدائه ومبغضيه، وأن يجلبهم إلى الإسلام ومنهج أهل البيت الأطهار (عليه السلام)، وهذا يؤكد أن المنهج الأخلاقي الراقي قادر على تغيير القلوب والنفوس والأفكار.
اضف تعليق