أن تكون علاقتنا بالله، علاقة صادقة وعميقة لا يشوبها شيء، ولا تحكمها الظروف، كما هي ظروف الوباء والموت، حيث يبحث الجميع عن ملجأ، إنما علاقة توفر الأمن الحقيقي في جميع مجالات الحياة، وتجعل الأمل مضيئاً في عيون الناس في حل مختلف مشاكلهم وأزماتهم طيلة حياتهم...
النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية أطلق سنّة لشعوب العالم بأن يلتزم الوسائل المادية لتحقيق الأمن والاستقرار، و ايضاً؛ اعتماد التجربة، وما تدركه حواس الإنسان، لا ما تقرّه الأفكار والنظريات والعقائد، وهم في ذلك استصحبوا –كما يقول أهل الأصول- الحالة السابقة في عهود التنوير الأولى عندما راح المنظرون والمفكرون الغربيون يقدمون للعالم البديل عن المنهج المعنوي الخاص بالديانات السماوية، لاسيما المسيحية، وبعد أن رصدوا أخطاء جسيمة في العهود الماضية ارتكبها رجال الكنيسة.
لذا بات الأمن السياسي يتحقق بالسلاح، والأمن الاقتصادي بالمال، والأمن الاجتماعي بالعلاقات البينية وفق نظرية الحرية الفردية الى جانب الحريات العامة التي بشرت بها الليبرالية السياسية.
مثال بسيط أورده عن الأمن الاجتماعي من السويد عندما توجه صديق لي الى مستشفى الولادة، يروي طبيعة التعامل الحسن والاخلاقي مع المراجعين، ومع زوجته، ولكن ما أن انتهى وقت العمل، حتى فوجئ بالممرضة تتغير لهجتها فوراً، وتتحول الى امرأة أخرى، كما لو لم تكن ممرضة قبل قليل داخل المستشفى، فخرجت مسرعة دون أن تنتبه لأي سؤال من أحد.
كان أغلب الظن، ليس في العالم الغربي، بل سرى الأمر في بلادنا الاسلامية ايضاً، أن اعتماد منهج الغيب في بناء العلاقات الاجتماعية، وتحقيق قضية كبرى مثل الأمن السياسي والأمن الاقتصادي، ربما يُثير من تحت التراب مقولات ماركس حول الدين، وأنه "أفيون الشعوب"، وكذلك الاخلاق والقيم، على أنها مجرد عوامل تخدير للشعوب لسلب ارادتها وفكرها، فما تريد تحقيقه لن يكون إلا بما تنجزه بيدك، و إن "من لا ينتج لا يأكل"! حتى وإن كان عاجزاً، أو امرأة أرملة او يتيم، فلا مكان للتكافل والتعاون في المعادلة الاقتصادية، كما كان يفعل أمير المؤمنين قبل اربعة عشر قرناً.
المشكلة التي وقع فيها المنظرون الماديون، ثم دفعت البشرية ثمناً باهضاً، كما نلاحظ اليوم بأمّ أعيننا، هو أن تنكّر الحضارة المادية برمتها، ليس للدين والمعنويات كمفهوم، وإنما تنكرت لجوهر الأشياء، وللحقائق، واعتمدت القشور وظواهر الاشياء، حتى سلوك الانسان عبارة عن حركة ميكانيكية وفق الرغبة والاستجابة والفعل ورد الفعل، ومسائل الحُب الكُره، وغيرها كثير من مسائل الحياة، في حين غابت عنهم حقيقة علمية بشكل غريب وهي أن "الغيب هو خلق الشهود –وليس تغييبه- وهو روح الشهود، وهو محتوى الشهود، وهو النور الأسطع للشهود، فاللبّ أهم من القشرة، ومن أراد شراء بضاعة ما فهو يهتم بتحديد حقيقة هذه البضاعة دون الاكتفاء او الاهتمام بما يعكسه مظهرها"، (الامام المهدي قدوة الصديقين، المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
بين روبيل وكيسنجر!
الجميع سمع باسم "هنري كيسنجر"، لانه أحد أشهر الساسة الاميركان، وأكثر ما اشتهر به ابتداعه نظرية "الردع النووي" التي حاز من خلالها الدكتواره في العلوم السياسية في خمسينات القرن الماضي، وأسس لنظرية انتاج السلام من خلال الحرب، وكان وراء نشوء أنظمة حكم عديدة في العالم الثالث، لاسيما في الشرق الاوسط، وتحديداً العراق، وفق نظرية العنف والارهاب لتحقيق الأمن على الصعد كافة، وهو ما حصل وحقق للاميركان نجاحات باهرة طيلة نصف قرن من الزمن.
ولكن! ماذا عن روبيل؟!
فمن يكون؟ هل هو سياسي غربي؟! أم عالم اقتصاد قدم شيئاً للعالم؟!
لا هذا ولا ذاك. انه عالم، لكن ليس من سنخ علماء اليوم، إنما يعود الى عهد الانبياء والمرسلين، فهو الذي خلف نبي الله يونس في قومه بعد ان هجرهم غضباناً أسفاً على تنكرهم للرسالة وللهداية، وكاد العذاب ينزل عليهم ويبديهم عن بكرة أبيهم، فلمّا أحسوا بقرب الموعد الإلهي هرعوا الى روبيل العالم، الذي كان الملجأ الوحيد لهم بعد تخلّي النبي يونس عنهم، فدلّهم على طريق النجاة بالتوجه الى الصحراء في وخلق حالة رثاء وبكاء لا نظير لها، بتفريق النساء عن الاطفال، والكبير عن الصغير، والجميع يتضرعون ويبكون متوسلين الى الله –تعالى- أن يعفو عنهم ويغفر لهم وينجيهم من العذاب الأليم، وهو ما حصل فعلاً، ويسجل التاريخ لأول مرة نجاة قوم من العذاب بعد إنذار الانبياء والمرسلين؛ {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، (سورة هود- الآية،96).
كان روبيل عالماً في قوم يونس، عليه السلام، كما كان كيسنجر ومن على شاكلته من علماء السلطة والمال عالماً أيضاً، مع فارق النتيجة التي فيها العِبر، فنصيحة روبيل، ربانية تستمد مصداقيتها من عمق الحقائق فانتجت أمنّاً لا مثيل له، بينما نصائح وأفكار كيسنجر وأمثاله تستند الى المصالح الشخصية والمالية، ما أن تنتهي هذه المصالح ينتهي كل شيء، انتجت ديكتاتوريات قادت الشعوب الى حمامات دم وحروب كارثية.
البشرية مع المنقذ طائعة لا مكرهة
عندما بحث العلماء الربانيين في قضية غيبة الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، سلطوا الضوء على هذه النقطة تحديداً مؤكدين أن من أهم مقومات الإيمان بوجود الامام الثاني عشر؛ الإيمان بالغيب و"بمنطق المعادلات الغيبية"، الى جانب اعتماد المعادلات المادية للنجاح في أي عمل او مشروع بالحياة، فالنجاح الحقيقي والدائم يأتي من استناد المعادلات المادية الى المعادلات الغيبية، لا أن تكون منفصلة عنه، أو لا تعترف به، كما هو حال عالم اليوم.
إن الأمن، والعدل، والرفاهية، والنظام وغيرها من مقومات الحياة الكريمة لن تسود وتستمر في العالم ما لم تكن قائمة على قاعدة صلبة من الاستجابة والتفاعل من لدن عامة الناس، فهم من أهم عوامل توفر هذه المقومات، لا أن تأتيهم جاهزة من حاكم او صاحب ايديولوجيا معينة، ربما يجدون انفسهم يدفعون أثماناً باهضة لقائها وهم أبعد ما يكونوا عنها، ولذا "فان الامام المهدي هو الذي يحقق الحلم الذي كانت تحلم به جميع الرسالات الإلهية، وهو إقامة دولة العدل، ومن أجل تحقيق مثل هذا الهدف هناك حاجة الى تهيئة عامة"، وفي حال عدم وجود هذه الارضية المهيئة من جماهير الأمة، ونحن نتطلع الى حكم العدل الإلهي والى الأمن والى العدل، فهذا يعني "تحكيم منطق القوة، ومنطق الفرض، فاذا كانت الاجواء العامة غير مهيئة لمنطق الفرض، النتيجة الطبيعية هي الرفض" (كتاب الغيبة- آية الله السيد محمد رضا الشيرازي).
لو القينا نظرة أخرى، ومن زاوية جديدة على ما نعيشه اليوم من كارثة "كورونا"، نجد أن انهيار النظام الصحي، وفضيحة النظام الاقتصادي والسياسي في اوربا، وانكشاف حقيقة الامن المزيف الذي كانت تعيشه شعوب أوربا والولايات المتحدة، نجد أن ما كنا نسمع به من إنجاز ونجاح وتفوق وغيرها من مفردات التعالي والمكابرة، لم يكن سوى قشور انتجتها الحضارة الغربية- المادية، فهي لم تأتي استجابة لفطرة الانسان وطبيعته الوجدانية الطيبة التي صاغتها يد السماء، وإنما عبثت بها أيدي الشركات والمصانع وأصحاب الرساميل ومن يخطط للاقتصاد النفعي وسياسات التوسع والهيمنة على حساب دماء الملايين من البشر.
وفي نهاية المطاف جنحت هذه الملايين، وربما يصل الى مليار او اكثر من البشر اليوم نحو مفردات الغيب، مثل؛ الدعاء الى الله –تعالى- والصلاة، والتكافل والتعاون، وإلا ماذا نعني من امتداد حكم الإمام المهدي بآمال الانبياء والمرسلين؟ انه الإبقاء على العلاقة وطيدة بين الانسان وبين ربه، والشعور المستمر على طول الخط بالحاجة الى السماء، وما تنزل عليه من رحمة ونِعم، وهذا تحديداً ما يريده الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه- منّا ومن العالم أجمع أن تكون علاقتنا بالله، علاقة صادقة وعميقة لا يشوبها شيء، ولا تحكمها الظروف، كما هي ظروف الوباء والموت، حيث يبحث الجميع عن ملجأ، إنما علاقة توفر الأمن الحقيقي في جميع مجالات الحياة، وتجعل الأمل مضيئاً في عيون الناس في حل مختلف مشاكلهم وأزماتهم طيلة حياتهم.
اضف تعليق