q
عندما تولى الامام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، مهام الإمامة، كانت الظروف السياسية والاجتماعية الأشد خطورة على بني العباس، والأكثر ايجابية في التيار الرسالي، حيث وصلت الى درجة كبيرة من القوة، واصبحت تشكل معها دولة داخل دولة، حتى ان كثيراً من اعوان هارون الرشيد...

الحكام الأمويون ومن بعدهم؛ العباسيون يعلمون علم اليقين أن الخلافة الدينية من بعد رسول الله، والزعامة السياسية ليست لهم، وإنما هي لأمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، والأئمة من ولده، ولم يجهلوا يوماً الحقائق التاريخية والأدلة النقلية والعقلية المؤيدة لأحقية أهل البيت في تولي أمر الأمة، ولذا كانوا على طول الخط يواجهون عقدة الشرعية السياسية، فلم يجدوا أسهل وأكثر تأثيراً في النفوس من إشاعة الخوف، وزرع روح اليأس من أية مطالبة بالحقوق لما يكلف ذلك من ضغوطات وتهديد بالسجن والتعذيب والقتل.

وعندما تولى الامام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، مهام الإمامة، كانت الظروف السياسية والاجتماعية الأشد خطورة على بني العباس، والأكثر ايجابية في التيار الرسالي، حيث وصلت الى "درجة كبيرة من القوة، واصبحت تشكل معها دولة داخل دولة، حتى ان كثيراً من اعوان هارون الرشيد، و وزرائه كانوا افراداً في الحركة الرسالية، وكان كل ذلك يجري وفق تنظيم دقيق وسرية تامة"، (التاريخ الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

وجود هذه القاعدة الاجتماعية الواسعة، يعود الفضل فيها الى عهد الامام الصادق، عليه السلام، وما تركته جهوده العلمية والفكرية من تربية جيل واعي ومؤمن بالرسالة، وعلى معرفة بالخط الفاصل بين الحق والباطل.

ومن فترة إمامة الامام الكاظم، ومعاصرته للحكام العباسيين، كانت الفترة الأطول مع هارون، وهي خمسة عشر سنة، قضى بعضها وهو في مدينة جدّه رسول الله، قبل ان يأمر بتهجيره قسراً من أرض الحجاز الى العراق مخفوراً ليبدأ رحلة السجن في الطوامير المظلمة، وكانت البداية من البصرة، ثم الى بغداد.

هذه الفترة التي يكتب عنها بعض المؤرخين واصفين إياها بانها "العصر الذهبي" للدولة الاسلامية، فانها انفردت بين عهود الحكام الأمويين والعباسيين بالانفاق على مجالس اللهو والطرب والخلاعة وتبذير أموال المسلمين على موائد الخمور، وعلى الغواني والشعراء المتزلفين، وعلى بناء القصور الفارهة، فيما كان الامام الكاظم، عليه السلام، يصبّ جل اهتمامه على أوضاع المسلمين، فقد كانت تجبى له الاموال والحقوق الشرعية من جميع أنحاء البلاد الاسلامية، فكان يوزعها على المحتاجين والمستحقين، يكفي أن نعرف أن نعرف أنه، عليه السلام، كان "خلال وجوده في المدينة يعيل خمسمائة نفر وتأمين معيشتهم بصدقات وأموال الامام الكاظم"، (لمحات من سيرة المعصومين- منال البدري".

كانت عيون هارون العباسي تتابع تحركات التيار الرسالي وامتداداته وتعرف أن الأموال الهائلة تناسب اليه، ولكن لم تثبت له، ولا مرة واحدة أن الامام الكاظم كان يستثمر هذه الاموال لجمع السلاح والرجال للاستيلاء على الحكم، فكان هذا من دأب الوشاة والمتزلفين حوله ممن كانوا يعدون التقارير المزيفة للحصول على درجة من القربى الى السلطان الجائر.

هذا من الناحية الاجتماعية، أما من الناحية السياسية فقد كان الامام الكاظم، عليه السلام، قد اخترق الجهاز الحاكم بأفراد مقربين منه يحسنون العمل في مناصب عليا لخدمة المسلمين والإسهام في حل مشاكلهم وتلبية احتياجاتهم، ولعل من أبرز هؤلاء؛ علي بن يقطين، أحد وزراء هارون العباسي، والذي تمكن بذكائه وحسن تدبيره الحفاظ على ثقة البلاط به وعدم إعطاء أي دليل وبرهان يثبت ارتباطه بالامام الكاظم، عليه السلام.

وقد حدد الامام الكاظم شروطه على الموظفين والعاملين في البلاط العباسي حتى يكون عملهم مُبرئ للذمة، ومنها:

1- تفريج كربة مؤمن، أو فك أسره.

2- قضاء الدين.

3- أن لا يذوب في البلاط، ويصبح أحد أعوان الظلمة.

4- أن يرى نفسه قادراً على حفظ دينه وقيمه، وبالذات ما يخص الدماء، فقد جاء عن الامام الباقر، عليه السلام: "إنما جعلت التقية ليحقن بها الدماء فاذا بلغ الدم فلا تقية".

إن القيادة في نظر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، تستمد شرعيتها من وحي السماء، وايضاً من الحفاظ على حقوق وكرامة المسلمين، والاثنان لم تكن في هارون العباسي ولا من قبله، ولا من بعده بالمرة، فالحرص والاهتمام البالغين بأحوال الأمة كان من الصفات القيادية لأهل البيت، عليهم السلام، ولذا نجد أن الامام الكاظم، وهو في الزنزانات المظلمة لا يتوقف عن مراسلة أصحابه من العلماء والوجهاء، وهذا ما كان يزعج هارون ويقضّ مضجعه، فكان يشدد على الامام الكاظم في السجن أملاً في أن يؤدي هذا بقطع الاتصال بينه وبين قاعدته الجماهيرية، وهذا الحلم بدده الامام الكاظم في حديث له الى هارون بأن "أعلم! أن كل يوم من العذاب يمر عليّ ينقص يوماً منك في الحياة". وهو ما حصل، فلم يدم حكم هارون طويلاً بعد اغتياله بالسمّ.

وقبل الختام أجدني ملزماً بالإشارة الى ما حصل بعد استشهاد الامام بساعات، حيث تعرض بعض المقربين من الامام الكاظم، للوثة عقدية عندما خلطوا بين قوة المال وقوة الشرعية التي طالما حرص إمامهم على الفصل بينهما وإقامة جدار كبير يفصل بينهما كما فعل ذلك جده أمير المؤمنين، وسائر الأئمة، عليهم السلام، فقد راعهم حجم الاموال المكدسة لدى التيار الرسالي من الحقوق الشرعية المرسلة الى الإمام، وحسب المصادر فان حجم الرصيد المالي كان عبارة عن "سبعين ألف دينار عند زياد بن مروان، وثلاثين ألف دينار عند علي بن حمزة، وثلاثين ألف دينار وخمس جواري عند عثمان بن عيسى الرواسي"، وعندما عرفوا أن عليهم تسليم هذه الحقوق الى الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، تحركت النزعات الكامنة في نفوسهم، ومنها حبّ المال، فابتدعوا لهم مذهباً ينفي موت الامام الكاظم، عليه السلام، زاعمين أنه لم يمت! من اجل الاحتفاظ بحفنة الدراهم والدنانير.

وقد انتشر أمر هؤلاء بين الناس في بغداد مما اضطر هارون العباسي لأن يجعل الامام الكاظم على الجسر ثلاثة أيام بدعوى التحقق من موته لدى جموع المسلمين، والصياح في الناس بأن "هذا إمام الرافضة الذين يزعمون أنه لم يمت" فكان الناس ينظرون الى وجه الإمام المسموم ظلماً وعدواناً، وهذه وصمة عار تسجل على أولئك الجاحدين الظالمين لإمامهم وهو شهيد مسجّى، من دون ان يظفروا بشيء، وصار مصيرهم ومصير هارون العباسي سواء في مزبلة التاريخ، وبقي الامام الكاظم، عليه القلب النابض للأمة بقيادته الرشيدة واهتمامه البالغ بالناس فيما يخص دينهم ودنياهم.

اضف تعليق