بين تاريخ ولادة الامام الحسين، عليه السلام، وتاريخ استشهاده، فترة زمنية، ربما تكون بالنسبة لنا طويلة، لكنها قصيرة جداً بحساب الطريق الطويل الذي شقّه للإنسانية، وقدم لها دروساً بليغة في كيفية اختيار منهج الحياة، وأثبت للعالم والاجيال، إن اختيار الخطوة الاولى في الحياة، هي التي تحدد المصير الأخير. فالإنسان الذي درج منذ نعومة أظفاره على الاعتماد على ما ينتجه الآخرون من تقنيات جميلة، وكل ما يخدمه ويوفر له الراحة والهناء، لن يتمكن يوماً من التفكير في أن يكون مبدعاً ومنتجاً ليحقق الاكتفاء الذاتي، كذلك الشعوب التي تطبعت على نمط من الحكم، ليس بوسعها التفكير في التغيير، لأن ببساطة، لا تجد حاجة في ذلك.
كيف نختار؟
طالما أن الانسان يولد وتكبر معه القابلية على الاختيار واستخدام العقل الارادة الموهوبة من الله – تعالى- فانه بحاجة الى عوامل مساعدة تنمّي هذه القابلية وتجعلها حيّز التنفيذ، وقد أكد العلماء على أن التربية والوراثة، لهما دور أساس في تفعيل قابلية الاختيار، وربما دخلت عوامل جديدة في العصر الراهن، تشكلت من العالم الخارجي، متمثلة في الأنماط الثقافية المنتشرة في العالم، تصدرها الأمم الاخرى.
فإلى جانب عامل الوراثة، فان للتربية دورها المباشر في صياغة القدرة على الاختيار لدى الابناء، وهذا ما درج عليه الامام في بيت الإمامة والنبوة، وهو الطريق الذي بإمكان الجميع ان يسلكوه اذا ما ارادوا حقاً، حياة سعيدة حافلة بالنجاح لأبنائهم، وذلك من خلال خطوتين من جملة خطوات:
الاولى: تكريس الاعتقاد لدى الابن (الذكر والانثى) بان يمتلك حرية التفكير وحرية الارادة، فبإمكانه الاختيار الصحيح، وهذا ما يعزز لديه الثقة بالنفس والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين.
الثانية: ضخ التجارب والعبر لما يفيدهم في حاضرهم ومستقبلهم، فالمعروف عن الشباب والفتيان، أنهم لا ينظرون الى خطوات أمامهم، مصحوبين بحالة من العنفوان والحيوية الطافحة والذهنية الوقادة. لذا فان تبيين التجارب، يمثل بالحقيقة هدية كبيرة وثمينة للجيل الجديد، بما يجب فعله وما يجب تجنبه وعدم الخوض فيه.
الثالثة: الاعتماد على الدليل والبرهان في انتخاب الاختيار الأفضل من جملة الخيارات. فالانسان بطبعة ميّال الى التمرّد وعدم الانصياع والطاعة فوراً، لذا فان التوجيه الى خيار معيّن مهما كان صحيحاً ومقدساً، فانه ليس بالضرورة سيلفت نظر الابن ويجعله في الطريق. وربما أثرت عوامل أخرى أشرنا اليها آنفاً، في اختيار الشباب طرقاً ومناهجاً للحياة.
ولعل أقوى الأدلة على ما نذهب اليه، ما جرى من حوار بين الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد في واقعة الطف، عندما سأل الاخير عن الخصال والمكانة التي بينها الامام الحسين، عليه السلام، في عدم مشروعية محاربته وقتله، فكان الجواب الهزيل والغريب بأن "لو كان الأمر بيدي لقبلت، لكن أميرك يأبى ذلك"! هذا الموقف هو الذي جعل الحر يرتعد في تلك القصة المعروفة، ثم يهتف للتاريخ والاجيال: "إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار".
حتى في اللحظات الاخيرة التي كان فيها الامام الحسين، عليه السلام، يحدد التشكيلة النهائية لقواته، فتح أبواب الاختيار أمام اصحابه المتبقين من رحلته الطويلة من المدينة الى كربلاء، وكان الوقت مساءً، فطلب من أي شخص يرى التردد في نفسه، التسلل في جنح الظلام والانسحاب من معسكره، بمعنى أنه اراد لهم البقاء بناءً على اختيارهم المحض، وليس شيئاً آخر.
الاختيار منهج ومدرسة
اراد الامام الحسين، عليه السلام، ان يكون الاختيار منهجاً في حياة الانسان، وليس منحة تُعطى له ثم تسلب منه عند الحاجة، وهكذا كانت نداءاته يوم عاشوراء لأهل الكوفة، بأن "كونوا أحراراً في دنياكم". ولمن يلاحظ اسباب انتكاسة أهل الكوفة وانقلاب الرأي عندهم ضد الامام الحسين، هو انفلات زمام الاختيار من ايديهم، وتحولهم بين عشية وضحاها من أناس مكرمون، يحظون بحق الاختيار ونعمة العقل والارادة، الى أدوات صمّاء تنفذ ولا تناقش، فهنالك من يفكر ويختار بدلاً عنها.
وفي عاشوراء، مفارقة مثيرة، بين أهل الكوفة الذين يختار لهم الحاكم (ابن زياد) القتال ضد ابن بنت رسول الله، فيساقون الى الحرب رغماً عنهم، وبين عملية التخيير التي بادر اليها الامام الحسين، عليه السلام، مرتين؛ الاولى مع ابن أخيه القاسم بن الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، عندما سأله: "كيف الموت عندك،..."؟ فأجاب الفتى: "في سبيلك، أحلى من العسل". والمرة الثانية مع ابنه علي الأكبر، عندما سأله عن رؤيته لما سيحصل مع الاعداء، فقال: "الأمر عندي سيّان؛ سواءً وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا". فقد كانت الاجابتين بمنزلة تحديد الخيار النهائي، كما هو درس لنا في كيفية صنع الواقع والمستقبل من خلال الاختيار الصحيح القائم على ثوابت من القيم والمبادئ.
ربما يقول البعض؛ ان الاختيار أمر طبيعي وسائد في مجتمعاتنا، لاسيما في شريحة الشباب، فهم يتمتعون بحرية الاختيار في مأكلهم وملبسهم وحتى تصفيف شعرهم، كما الحرية مبذولة لاختيار الاختصاصات في التعليم الجامعي، وحتى الحرية الفكرية والثقافية، بيد ان كل هذا وغيره، لايمثل الاختيار النابع عن تقييم عقلي ووجداني، إنما هي في معظمها، ردود أفعال على وطأة الضغوط النفسية والكبت الذي مرت به شعوبنا، من استلاب الحرية والارادة والكرامة. مما يستوجب اليوم التحلّي بمزيد من اليقظة والحكمة والاتزان في تحديد الموقف من مجمل القضايا والامور التي تمر بها الامة، وهذا تحديداً ما يدعو اليه الامام الحسين، بل وأهل البيت ، عليهم السلام، بأجمعهم، بأن الاختيار عن وعي وبصيرة، يأخذ بنظر الاعتبار عوامل وصول هذا الاختيار بالانسان الى بر الأمان والى ما يريد من سعادة وهناء في الدنيا والآخرة.
اضف تعليق