إن العالم يبحث عن اسباب وعلل منطقية للاسهام في الضغط على النظام السعودي للتخلّي عن تعنته القديم وموقفه العدائي من ملف البقيع، فقد عرف العالم إن المزارات المقدسة لدينا ليست للعبادة وإنما لاستلهام الافكار والقيم، كما جاء على لسان رجال دين مسيحيين ومفكرين وأدباء وعلماء غربيين...
اذا سلطنا الضوء على سير التنازلات الجوهرية في الحالة الدينية للحكم السعودي، والتخلّي عن كثير من الالتزامات الصارمة، نجد أن لا ضرورة لارتباط ملف مقبرة البقيع، وإعادة بناء مراقد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، بالمسألة الدينية، كما حاولوا طيلة العقود الماضية إيهام الرأي العام به.
فيما مضى من الزمن كان الغناء والطرب والسفور من المحرمات عند رجال الدين السعوديين (الوهابيين)، ومن مفارقات أيام زمان؛ أن مجلة ذائعة الصيت، تموّل سعودياً، مثل مجلة "المجلة"، كانت محضورة على أكشاك الصحف والمجلات داخل السعودية لشدة معارضة هؤلاء لما فيها من صور مثيرة للنساء –حسب تصورهم- علماً أن هذه المجلة الاسبوعية ظهرت في مطلع الثمانينات، وكانت موجهة بالاساس للقارئ العربي في البلاد العربية وفي أي مكان بالعالم وتمثل واجهة البلاط السعودي.
أما اليوم نلاحظ رجال الدين هؤلاء يقفون متفرجين، بل ومشاركين في حفلات الغناء لمطربين ومطربات من الغرب، وليس من العرب! ثم إلغاء الكثير من المحرمات تحت شعار الانفتاح والتغيير، وهي بالحقيقة ليست سوى استجابة لطلبات العواصم المعنية في الغرب لتحسين صورة السعودية في العالم وتخليها عن ثوبها القديم.
فإن وجدت السعودية يوماً أن إعادة بناء المراقد في البقيع يصب في مصلحتها وينقذها من الهزائم السياسية والعسكرية المتلاحقة، فضلاً عن ازماتها الاقتصادية، فانها لن تتردد لحظة واحدة عن إصدار الإوامر في هذا المجال، ولن تجد صعوبة في ايجاد المبرر، ولن تشعر بأي حرج في الموضوع، ولا يهمها توافد الملايين من الشيعة من ايران والعراق وسائر البلدان، كما يحصل في المدن المقدسة في ايران والعراق وسوريا.
ما يخشاه السعوديون (الوهابيون) من المراقد المطهّرة في البقيع، إشعاعاتها الحضارية، اكثر من انعكاساتها الدينية والطائفية، فالسعودية، كبلد يعد نفسه موعوداً بمستقبل زاهر بفضل الثروة النفطية، والدعم الغربي، والاميركي تحديداً في مجالات عدّة، يسعى لأن يظهر أمام الشعب السعودي بانه صاحب رؤية مستقبلية لحياة افضل، ولكن السلطات السعودية تصطدم بما يناقض التنمية والحرية وحقوق الانسان، عندما تنزلق في مواجهة مكشوفة للعالم مع مكون كبير من الشعب السعودي في المنطقة الشرقية، فبحجة مطارد مطلوبين، تعمد الى تدمير بيوت ومتاجر الشيعة في العوامية –مثلاً- وتنغمّس بشكل غريب في دماء الاطفال والشباب، مع إصرار على سياسة التمييز الطائفي المتمسكة بها منذ عقود، وعندما يتحدث الشيعة في العالم، ومنهم طبعاً شيعة السعودية، عن إعادة بناء مرقد الإمام السجاد –مثلاً- فان المزار او الروضة التي نفترضها أن تكون نظيرة لسائر المراقد المشرفة في العالم، سيتحول الى مركز إشعاع لقيم انسانية أبرزها؛ الحرية، ويعرف الناس والاجيال أن صاحب هذا المرقد له الفضل في مكافحة العبودية على نطاق واسع، وأنه كان يشتري عشرات العبيد، ثم يطلق سراحهم مع حلول عيد الفطر، بعد تعليمهم القرآن الكريم والحديث، وهو ما يناقض تماماً سياسات التمييز والإقصاء المتبعة في السعودية أو أي بلد اسلامي آخر.
كذلك الحال بالنسبة للإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، فان وجود مزاره الشريف بما يليق، يثير ذكريات التصدّي الحازم لأهل بيت رسول الله، لأول محاولة أموية لتحويل الحكم الاسلامي الى سلطة وراثية ديكتاتورية، وكيف أن الامام الحسن، مهّد للنضهة الحسينية، اجتماعياً وسياسياً، عندما بين مساوئ معاوية وحقيقة نواياه من الهدنة التي حصل عليها، وربما يعزى تبرّم أهل الكوفة وسائر الامصار من سياسات معاوية ودعوتهم الامام الحسين لمبايعته بدلاً من يزيد، الى تلك الحقائق التي كشفت عنها الهدنة.
أما الحديث عن الامامين؛ الباقر والصادق، عليهما السلام، فهو يطول عن البعد العلمي الواسع في حياتهما وما قدّماه للأمة من انجازات لا نظير لها، يقرها علماء الغرب والشرق قبل المسلمين انفسهم.
هذه الثغرة في جدار الخوف السعودي من ملف البقيع لابد من استغلاله اعلامياً بالدرجة الاولى لإيصال صوت الأئمة الأربعة الى العالم الى جانب المطالبة بإعادة البناء والتفكير بالجانب الظاهري للقضية.
إن العالم يبحث عن اسباب وعلل منطقية للاسهام في الضغط على النظام السعودي للتخلّي عن تعنته القديم وموقفه العدائي من ملف البقيع، فقد عرف العالم إن المزارات المقدسة لدينا ليست للعبادة وإنما لاستلهام الافكار والقيم، كما جاء على لسان رجال دين مسيحيين ومفكرين وأدباء وعلماء غربيين، تبقى الخطوة الثانية والأقوى في إيصال الرسالة الانسانية للأئمة الاربعة وما يمكن ان تتركه هذه المشاهد المشرفة بحالة عمرانها وزهوها، من آثار عميقة في النفوس، كما تفعل الشيء ذاته نصب تذكارية وتماثيل لمشاهير السياسة والأدب والفكر في الغرب، بل وفي جميع انحاء العالم، مع الفارق طبعاً.
اضف تعليق