الغذاء المعنوي كان متوفراً لدى افراد جيش الامام الحسن المحتبى، عليه السلام، وهو يعدّه لاستئناف المعارك ضد التمرد العسكري والسياسي الذي قاده معاوية في الشام، وذلك بعد يوم واحد من انقتال أبيه؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، الى الرفيق الأعلى، في الواحد والعشرين من شهر رمضان...
يدرك جميع قادة الجيوش في العالم أنهم غير قادرين على إحراز الانتصارات، وتحقيق اهدافهم، ما لم يحرزون بدايةً؛ النصر في الحرب النفسية، حتى باتت المعنويات تمثل الغذاء الاول للمقاتل في ساحة القتال، قبل أي نوع من مستلزمات القتال، من غذاء ودواء وسلاح وسائر الامور اللوجستية.
هذا الغذاء المعنوي كان متوفراً لدى افراد جيش الامام الحسن المحتبى، عليه السلام، وهو يعدّه لاستئناف المعارك ضد التمرد العسكري والسياسي الذي قاده معاوية في الشام، وذلك بعد يوم واحد من انقتال أبيه؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، الى الرفيق الأعلى، في الواحد والعشرين من شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، فقد استجابت الجموع في الكوفة لنداء عبد الله بن عباس، بمبايعة الامام الحسن، إماماً وقائداً للأمة، وهم يعرفون منزلته وقرابته من رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهم إنما يقاتلون شخصاً شقّ عصى المسلمين، وصدق فيه قول النبي الأكرم بأن من الفئة الباغية.
فهو حفيد خاتم الانبياء، وابن أمير المؤمنين؛ وقد بيّن جدّه المصطفى منزلته مراراً أمام أنظار وأسماع المسلمين، بأن "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، و"الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة"، وغيرها من الاحاديث التي ما يزال المسلمون يقرّون بها بلا استثناء، لذا فتصدّيه للقيادة السياسية، لم يكن بعيداً عن مبادئ "الديمقراطية" بالمفهوم الدارج اليوم، حيث قدم رسول الله لأمته أفضل خيار للقائد الناصح والأمين على دين الناس، وعلى دنياهم.
أما من الناحية السياسية فان الامام الحسن، وهو في منصب الزعامة السياسية كان يهيمن على رقعة واسعة من العالم، ربما تفوق منطقة الشرق الأوسط حالياً، وهي من أغنى مناطق العالم من حيث الثروات والموارد البشرية والموقع الجغرافي، بالمقابل نلاحظ تقوقع شخص مثل معاوية في منطقة الشام، وهو يرفض علناً أوامر العزل التي أرسلها اليه الامام علي، عليه السلام، في الساعات الأولى من توليه القيادة السياسية وبعد تلك البيعة الملجلجة والشهيرة، ومع تولي الامام الحسن، مهام القيادة، يواصل هذا الشخص تحشيد القوى وخوض الحرب مهما كان الثمن للحؤول دون خسارته ولاية الشام، ثم النزو على منصب القيادة السياسية، بل وتقمّص رداء الخلافة.
كل هذه الامتيازات والمعطيات لم تكن لتفي النفوس المتزلزلة لآلاف الجنود المجندة في جيش الامام الحسن، فقد كانوا يجرون خلفهم آثار الهشاشة النفسية والمعنوية من قتالهم معاوية بقيادة أمير المؤمنين، فهم أولئك الذين شكاهم الامام، عليه السلام، في كلمات قاسية، ووبخهم على تخاذلهم وعدم تفانيه في نصرة الحق.
والملفت جداً في هذه الظروف النفسية العجيبة، أن الامام الحسن، عليه السلام، لم يدع افراد جيشه في ضائقة مالية، فكان مدركاً للأعباء المالية التي تحملوها من خوض المعارك لفترات طويلة بقيادة أمير المؤمنين، ضد الخوارج، واصحاب الجمل، وايضاً المارقين من جماعة معاوية، لذا أمر بزيادة رواتب الجنود.
ليس هذا وحسب، بل انه، عليه السلام، أقدم على خطوة متقدمة في حماية كيانه السياسي والعسكري، بالكشف عن جاسوسين كانا يراسلان معاوية، أحدهما في الكوفة، والآخر في البصرة، وأمر باعدامهما فوراً.
من المفترض ان يكون الجيش الاسلامي في الكوفة العاصمة، في أفضل وضع نفسي ولوجستي واداري بقيادة الامام الحسن، ويكون ذو قدرة قاهرة ليس على جماعة من العصاة في الشام، بل وحتى خوض الحرب مع الدولة البيزنطية المتربصة الدوائر دائماً بالدولة الاسلامية. ولكن مع كل ذلك، كان افراد هذا الجيش يسيرون بخطوات ثقيلة، ونفوس مهزوزة، تركت لمعاوية الفرص تلو الفرص لاختراقها وتدميرها، وهم بعدُ بين يدي إمامهم وقائدهم الامام الحسن، عليه السلام.
فما السبب وراء ذلك؟
ربما هنالك عوامل عدّة تسببت في نشوء هذا الخذلان في أوساط الجيش الاسلامي، بيد أننا نسلط الضوء على عامل واحد؛ وهو سطحية المعرفة بالقائد وهشاشة الإيمان به، واساس مشكلة المسلمين مع الرسالة بشكل عام، مع قادتهم بشكل خاص، تكمن في مسألة الايمان، ولذلك نجد القرآن الكريم يحرص على تصنيف الأمة من الناحية الثقافية في مرتبتين: المسلمين، والمؤمنين، فالايمان ما يستقر في القلب ويجعل صاحبه مستعداً للتضحية بكل شيء من اجل ما يؤمن به، وهذا ما ابتلي به الامام الحسن، فقد كان الناس يرونه على أنه امتداد للحكام الذين توالوا على الأمة من بعد رسول الله، وليس كخليفة حقيقي له، صلى الله عليه وآله، وأنه الامام المفترض الطاعة من بعد أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام.
ولعل حادثة الاعتداء عليه، عليه السلام، بجرح فخذه، تؤكد على هذه السطحية والجهل الغريب لدى الغالبية العظمى من المسلمين بثقافتهم الاسلامية، وقد برر بعض الباحثين هذه الحالة، كون الامة بعد لم تقضي من عمرها سوى اربعين عاماً من بعد هجرة النبي، وأن رواسب الثقافة الجاهلية ما تزال عالقة في نفوسهم، مثل الولاء لزعيم القبيلة او العشيرة قبل أي شخص آخر، وايضاً؛ التعلّق الشديد بالذات، وعدم تجاوزها نحو التضحية والإيثار وغيرها من المفاهيم التي نرى القلّة ممن تحلّى بها واصبح من الخالدين، مثل الصفوة ممن عاشوا من أهل البيت، عليهم السلام؛ بدءاً من رسول الله، وحتى الامام الحسين، في واقعة كربلاء.
لنتصور أن زعيماً سياسياً وقائداً للقوات المسلحة، يخطب في جماهيره ويبين لهم أنه داعية الى السلم والاستقرار والتلاحم، وليس داعية للفرقة والحرب واراقة الدماء، فيتعرض فوراً الى التكفير من قبل الغالبية العظمى، ويصفونه بالجبن والخذلان والتنازل أمام الطرف المقابل!
وهذا ما حصل مع الامام الحسن عندما اراد اختبار افراد جيشه، وهو يسير به الى حرب معاوية، وقد ذكرت المصادر أنه كان جيشاً جراراً انطلق من الكوفة على كراهية، بعد كثير من النصح والكلام منه، عليه السلام، ونزل بهم في منطقة قريبة من المدائن، فدعا الناس الى الصلاة جامعة، فصعد المنبر وخطب فيهم، ومما جاء في الخطبة: "إني أرجو أن أكون قد اصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما اصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولامريداً له بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لانفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا عليّ رأيي". ففسّر الناس هذا الحديث – كما يورد الشيخ الصدوق في كتابه؛ الإرشاد- بان الامام يريد مصالحة معاوية، فصاح بعضهم: "كفر والله الرجل"!! ثم حصل ما حصل من الهجوم عليه وانتهابه، حتى المصلّى التي كان يجلس عليها، وفيما كان في الطريق على فرسه، إذ كمن له أحد المتأثرين بالخوارج، فهاجم الامام بمعول وضربه على فخذه فاصابه اصابة بليغة بلغت العظم، حتى لم يتمكن الامام من السير على قدميه فحمل الى المدائن للمداواة.
هذا الرجل وأسلافه من الخوارج هو أولئك القراء للقرآن الكريم بذاك الصوت الشجي، واصحاب الجباه السود، أخذوا الدين بظواهره فقط، دون المحتوى والجوهر، بل هم ابناء أولئك الذين كانو يحتجون على النبي الأكرم في العطاء، وانه لم يعدل! او ذاك الذي الذي يقف بوجه رسول الله عندما همّ بالصلاة على جنازة أحد المسلمين ممن كان يمارس النفاق في حياته، فقال له: "ألم ينهك الله عن ذلك"؟!!
فالاسلام في رؤية هؤلاء إنما هو كثرة ركعات الصلاة، وقراءة الكتاب المجيد، وايضاً في السيف بوجه المعارض، بينما الامام الحسن، بين لهم رؤيته الحضارية والانسانية الى الاسلام، وأن يكون منهجاً في التفكير ونظاماً متكاملاً في الحياة، فرفضوه وتفرقوا عن الحق، ومالوا الى الباطل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً بالتخلّي عن الحرب واراقة الدماء، ثم التنعّم بالحياة وما يحصلون عليه من مكاسب. ولذا كانوا هدفاً سهلاً للحرب النفسية قبل ان حرب السيوف والرماح، فلم يكلف معاوية نفسه وجيشه عناءً كثيراً، فقد عملت الشائعات في تغيير المواقف والرؤى، ليس فقط إزاء شخص الإمام الحسن، وإنما إزاء الدين بشكل عام، وهذا يفسّر لنا صمت الناس إزاء تنصيب شخص مثل يزيد ليكون هو "الخليفة" والزعيم السياسي للأمة من بعد أبيه معاوية.
اضف تعليق