قصة استشهاد ولديّ مسلم بن عقيل، التي تمر هذه الايام ذكراهما، ربما تأتي في المرتبة الثانية من حيث شدّة مظلوميتها، بعد استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، و أبنائه وإخوته وصحبه في كربلاء، وحسب الروايات التاريخية فان ابراهيم ومحمد، كانا برفقة الامام الحسين، عليه السلام، في كربلاء، وانفصلا عن المتبقين من عائلة الإمام بعد الواقعة وتم اعتقالهما من قبل سلطات عبيد الله بن زياد ولمدة سنة تقريباً، وبعد فرارهما من السجن، تمكّن منهما أحد ضعاف النفوس الذي أغرته الجائزة المرصودة لمن يعثر عليهما، فأخذهما الى جانب الفرات، وعندما علم الغلامان انه يريد قتلهما، قالا له: يا شيخ...! بعنا في السوق وانتفع من اثماننا – في إشارة منهما الى تحقيق هدفه بالحصول على المال- بيد أنه أصر على قتلهما رغم أنهما بينا له أنهما من أهل بيت رسول الله؟ وقال: بل اقتلكما وآخذ الجائزة برأسيكما، ثم قالا له: اذهب بنا الى ابن زياد ليرى فينا أمره، فأبى الرجل ذلك، وذبحهما بدم بارد على ضفاف الفرات، و احتزّ رأسيهما، ورمى بجثمانهما الشريف في مياه الفرات.
وحسب الروايات التاريخية؛ جاء الرجل بالرأسين الى ابن زياد، وطلب منه الجائزة، فنهره وعنّفه وأنكر عليه الجائزة ثم أمر بقتله!
المظلومية ورسالة الضعف الخاطئة
من المفاهيم التي اتفق العقلاء والحكماء على سلبيتها؛ ظلم الانسان لأخيه الانسان، وعندما تكون هذه الممارسة في الوسط الاجتماعي فانها تتطبع بأحواله، فالظالم – على الاغلب- يكون ذو سطوة وقدرة، سواء في المال او الوجاهة الاجتماعية، او حتى السياسية، بينما الواقع عليه الظلم هو الفاقد لعناصر الردع فيكون مظلوماً، وتبعاً لهذه المعادلة، فان هذا المظلوم – بالضرورة- يتّسم بالضعف، وإن اراد المطالبة بحقه، لن يكن في يده سوى ورقة المظلومية يرفعها أمام الناس.
بيد أن هذه المعادلة لا تسري على قضايا ابناء أهل البيت، عليهم السلام، مع حكام الجور والظلم، فقد سقطت أعداد كبيرة من ابناء الأئمة المعصومين، عليهم السلام، والتابعين لهم، ضحايا الظلم والاضطهاد في العهدين؛ الاموي والعباسي ، بيد ان مقتل الشيعة المعارضين منذ تلك العهود وحتى وقتنا الحاضر تحولت الى عامل قوة غير معهودة، وربما تفاجأ بها الحكام الظلمة انفسهم بها، رغم ما يمتلكونه من قدرات تصوروا انها كافية لبسط سيطرتهم وإسكات المعارضة والاستفراد بالجماهير.
ولمن يقرأ تاريخ القمع والاضطهاد الذي مارسه الحكام الظلمة ضد الشيعة، يجد الاستقواء بشهداء تلك السياسة والاعتبار بها من خلال تشييد مزاراتهم والمداومة على ذكر مصابهم وتناقل قصصهم عبر الاجيال فتتضح المسألة الجوهرية، وهي من يكون الى جانب الحق؟ ومن يكون الى جانب الباطل؟ مثل قصة ميثم التمار وحجر بن عدي الكندي، ومروراً بقضية مسلم بن عقيل، وفميا بعد قصة ولديه؛ محمد وابراهيم، وهكذا تتواصل قافلة الشهداء، مثل القاسم بن الامام الكاظم، عليهما السلام، والقائمة متواصلة الى يومنا هذا والى يوم القيامة، حيث تشهد الايام سقوط شهداء كُثر بطريقة بشعة على يد الظالمين.
ورغم انحياز التاريخ – في كثير من الاحيان- ورغم غياب الحقيقة عن الاجيال، بيد أن حكم العقل والانصاف لن يكون بعيداً، فهؤلاء الشهداء سقطوا مظلومين دون عقيدتهم ومبادئهم على يد سلطان ظالم، ولم يصطدموا بهذا السلطان او ذاك وهم في طريقهم للمنافسة السياسية، كما انهم تميزوا عن سائر ضحايا الظلم في العالم، بأنهم قضوا في سبيل اهداف كبرى سامية تتصل بالسماء، وإلا فان شعوب عدّة في العالم تعرض ابناؤها الى حملات إبادة بشعة من قوى استعمارية و انظمة ديكتاتورية وحشية، بيد أنهم لم يتحولوا الى جرح يثير المشاعر والوجدان على مر الاجيال.
هذا التميّز هو الذي يخلق في النفوس قوة معنوية لا تضاهى تدفع الناس في العراق، على وجه التحديد، لتخليد ذكراهم وتشييد مراقدهم والانفاق بشكل غير محدود لإطعام الزائرين وإسكانهم وغير ذلك، كما تعمل على تعزيز العقيدة والايمان والاخلاق في النفوس.
هل يخشى الظالمون من المظلومين؟
ينقل أن أحد علماء الدين في ايران ألف كتاباً عن الفترة التي عاشها نبي الله موسى، عليه السلام، ومجريات المواجهة بينه وبين فرعون، وذلك في عهد الشاه، وبعد طباعة الكتاب وانتشاره، تمت مصادرة الكتاب واعتقال مؤلفه، وبعد سؤاله من السلطات الحاكمة عن سبب هذه الاجراءات الغريبة، وانه لم يتدخل في السياسية – كما يقال- إنما تحدث عن قضية تاريخية في ضوء آيات القرآن الكريم، فجاء الجواب الاكثر غرابة في ذلك الوقت، بأنك ذكرت فرعون وافعاله وسياساته الديكتاتورية والقمعية، وهذا ينطبق على كل من يمارس هذه السياسة في كل زمان ومكان.
فطالما يحمل المظلوم قضية عادلة ويستشهد دون مبادئ وقيم سامية، فانه يخيف الظالم الذي يجد نفسه في الجهة المقابلة مما يهدد شرعيته السياسية ومصالحه الاقتصادية، لذا نجد الحكام الظلمة لا يمانعون من تشييد المراقد وتزيينها وتأثيثها وحتى زيارتها، ولكنهم يحرصون على تغييب صفة المظلومية لاصحاب هذه المراقد، يكفي ان نستذكر وصايا نظام صدام للخطباء الحسينيين بأن يتحدثوا عن كل شيء بخصوص واقعة كربلاء ما عدا لحظة استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، ومن الذي قتله وما هي الدوافع والخلفيات.
ولذا من الجدير أن تتحول مراقد، مثل ولدي مسلم بن عقيل، أو ما يعرف بـ "أولاد مسلم"، في قضاء المسيب، او مرقد القاسم بن الامام الكاظم، على الطريق الى مدينة الديوانية، وقد تحولت المنطقة الى ناحية واسعة الاطراف. او حتى مرقد مسلم بن عقيل وميثم التمار وغيرهم، الى مصادر حيّة نابضة تضخ العبر والتجارب للأجيال بكيفية تقويم الحكم الديكتاتوري وإصلاح الاوضاع السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، لان اصحاب هذه المراقد إنما قضوا على يد الظلمة، لانهم كانوا امتداد لرسالة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ويعكسون منهج أمير المؤمنين، عليه السلام، والمعروف بإنسانيته وتحضّره وقدرته على اسعاد الناس والبشرية جمعاء.
إن مجرد استذكار طريقة مقتل أولاد مسلم او غيرهما من الصالحين، تظهر لنا المعايير الحقيقية للحق والباطل، وللخير والشر، فالذي يبحث عن الامتيازات المادية والمناصب السياسية "ومن يأكل الخبز بسعر يومه"، موجودون على طول التاريخ، فمن ينزلق نحو هذا المنحدر فانه قطعاً يكون شبيهاً بقاتل أولاد مسلم على ضفاف الفرات والمتسبب بقتل أبيهما في الكوفة، بل و"الامة التي شايعت وبايعت" على قتال الامام الحسين، عليه السلام.
اضف تعليق