هوى سيف عبد الرحمن بن ملجم المرادي على رأس الامام علي، وهو في حالة السجود بمسجد الكوفة سنة اربعين للهجرة، وعندما سالت الدماء على وجه الامام لتخضّب لحيته كما وعده رسول الله من قبل، أخذ قبضة من تراب الأرض ووضعه على مكان الجرح وهو يتلو الآية الكريمة: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخركم تارة أخرى}.
جيئ بالمرادي مقبوضاً بين يدي الإمام وهو زعيم الدولة الاسلامية وخليفة الله في أرضه، وهو الذي جمع بين خلافة الله وخلافة الناس في وقت واحد، فما هو المتوقع ان يكون الحوار بين شخصية كهذه، وبين رجل غادر؟
الإمام علي، عليه السلام، يسأل المرادي:
ويحك! لم فعلت هذا....؟!
وهنالك حوار جرى وعتاب مُر للإمام لذاك المجرم، ثم التفت، عليه السلام، الى من حوله، وأقربهم والداه؛ الحسن والحسين، عليهما السلام، وقال معلناً: "إن قمت من ضربتي هذه فأنا أولى بالعفو عنه، وإن متّ فضربة بضربة...".
وفي الساعات الحرجة والتاريخية التي سبقت استشهاد الامام، دعا الامام المقربين رموز بني هاشم والمقربين منه قائلاً: "لا ألفينكم يا بني هاشم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قتل علي".
الامام علي يُحرق قميص عثمان
نعم؛ قتل عثمان بالسيف كما قتل الامام علي، عليه السلام، ولكن؛ شتّان بين القاتل والمقتول في الحادثتين، فقد تحولت دماء عثمان الى ثمن لوصول معاوية الى قمة السلطة، بينما تحولت دماء الإمام علي الى ثمن لحقن الدماء وإرساء دعائم الامن والاستقرار في المجتمع الاسلامي، فالذي حصل خلال حكم الامام، أن معاوية ومن قبله طلحة والزبير وعائشة وحتى الخوارج، زجّوا بالمسلمين عامة في حروب ضروس سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى لتحقيق اهداف ذاتية ومصالح شخصية ضيقة، بينما كان الامام يدعو الناس الى العدل والحرية والسلام والعيش الكريم.
أرسل الامام علي، ذات مرة الى معاوية بعد جولات عدّة من القتال في معركة صفين، بأن "لماذا تُباد العرب – مضمون الرواية التاريخية- لنخرج نحن الاثنين للمبارزة..."، فسمع عمرو بن العاص، وتوجه الى صاحبه معاوية بالقول: "أنصفك الرجل..."!! فكان الجواب السريع: "وهل طمعت بالخلافة"؟!
منذ الساعات الاولى لتوليه الحكم، وهو يفكر بحقن دماء المسلمين، ونشر السلام والأمن والعيش المشترك للجميع في اطار الدولة الاسلامية الواحدة، حتى غير المسلم كان آمناً بنفسه وماله وعرضه، وايضاً كرامته، أما الحرب والجهاد فهي لدرء الأخطار التي تهدد الامة، كما فعل معاوية بالتمرد على أوامر الامام ورفض التخلّي عن ولاية الشام.
وحتى في حروبه الثلاث مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فانه كان يثقف اصحابه بأنهم يقاتلون مسلمون ضلّوا طريق الهدى واتبعوا أهوائهم وغرائزهم فسقطوا في شراك المال والمنصب والامتيازات، وإلا ما الذي يمنعه من إبادة الخوارج في حربه معهم وهم يكفرونه وجهاً لوجه؟ وبعد انتهاء الحرب عفى عن المتبقين منهم، وكذلك فعل مع أسرى حرب الجمل، ولعل هتافه الشهير يبقى ينبض في التاريخ الانساني: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فمن طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه".
وهكذا مضى الامام علي، عليه السلام، ورحل عن هذه الحياة وبقي خلفه الخوارج والأمويون ليكونوا شهادة حيّة للتاريخ والاجيال أمام الامة بأنهم لم يقتلوا من أجل مصالح سياسية، او ان يبقى كرسي الحكم لهذا او لذاك، إنما لإحقاق الحق ودحض الباطل فقط.
جراح علي وجراح شيعته
كتب العديد من العلماء والباحثين في المجازر والمظالم التي تعرض لها الشيعة على مر التاريخ وحتى يومنا هذا، وكانت يثيرهم التساؤل الكبير عن سبب إحجامهم عن الرد بالمثل على كل ما يتلقونه من اعتقال وقتل وتشريد وإبادة، والسؤال الآخر؛ عن سر قوتهم وبقائهم حتى اليوم، رغم كل التحديات؟
الجواب ليس بالصعوبة التي يتصورها البعض، بيد أن المشكلة في اختفائها خلف هموم السياسة والحكم والمصالح الخاصة، فهذه سيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وقصته مع كفار مكة ومن نصبوا له العداء وحاولوا قتله والقضاء على الاسلام، وكيف تعامل معهم في فتح مكة، ومن بعده سيرة الامام علي، والأئمة من بعده، عليهم السلام، كلهم أكدوا ان رسالتهم، رسالة سلام لا حرب، ورسالة حياة لا موت، فهي رسالة الحضارة الانسانية المسددة من السماء.
وبات من المؤكد وجود قوى تحرك اذرعاً من خلف الستار لمزيد من إزهاق الارواح في صفوف الشيعة في بلدان المنطقة، وفي المقدمة العراق، الى جانب، المنطقة الشرقية والبحرين ومناطق اخرى في البلاد الاسلامية، في محاولة لايجاد شرخ في الفكر الشيعي يتجه نحو الرد بالمثل وصياغة منهج جديد للتعامل مع الاحداث يقوم على اساس العنف والبطش، بهدف جر الشيعة الى الساحة المليئة بالدماء والدسائس المؤامرات، وحينها لا ظالم ولا مظلوم، ولا حق ولا باطل، إنما حروب متوالية ومذابح وسيول من الدماء ثم الانتهاء بـ "لا غالب ولا مغلوب".
في مثل هذه الايام يُحيي الشيعة في العراق ذكرى استشهاد الامام علي، عليه السلام، وهم يعدون انفسهم امتداداً لمظلومية الامام وسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، والامتداد الطبيعي لظلامات الشيعة عبر التاريخ على هذه البقعة الجغرافية، وتضاف اليهم خصوصية اخرى بين شيعة العالم، أنهم يحظون بحضور فاعل في القرار السياسي وفي بناء الدولة الحديثة من بعد سلسلة من الأنظمة الديكتاتورية الغاشمة، في الوقت ذاته، هم مدعوون قبل غيرهم لإحياء سيرة الامام علي وفكره ومنهجه.
فقبل ايام مرت علينا الذكرى الثالثة لوقوع المجزرة المروعة لعدد كبير من منتسبي الجيش والقوات المسلحة العراقية في اعقاب احداث مدينة الموصل واجتياح عناصر داعش الاراضي العراقية، وقد أدى حجم المأساة وآثارها الاجتماعية والنفسية الى نوع من التعبئة والتحشيد ضد الجهات الفاعلة من عشائر او افراد كانوا ممن نفذوا عمليات الاعدام الجماعية بمئات الشباب من المتطوعين في قاعدة "سبايكر"، ومواقع عسكرية اخرى احتلها داعش عام 2014، وبرزت هذه الايام نبرة على مواقع التواصل الاجتماعي تبرئ عناصر داعش من هذه الجريمة، بعد تعرضهم للهزائم المنكرة وباتوا على شفى حفرة من الضياع والاضمحلال، وإلقاء المسؤولية حصراً على عشائر بعينها واسمها في تكريت ومناطق في محافظة صلاح الدين.
فما المقصود من ذلك؟
هل هي محاولة جديدة لتعميق الهوّة بين الشيعة والسنة و تعبئة النفوس للثأر بمزيد من الدماء والتمزق الاجتماعي في العراق؟
منذ التصعيد الخطير في المواجهات الطائفية بعد الاعتداء على مرقد الامامين العسكريين، عليهم السلام في شهر شباط عام 2006، سجل العالم موقفاً تاريخياً وحضارياً للشيعة بالاحجام عن التعرض لمقدسات الطوائف الاخرى وخوض حرب طائفية مفتوحة، وعندما دخل تنظيم داعش بنفسه وبعناصر استقدمها من الشيشان وافغانستان والمغرب العربي ومن كل مكان للضرب بالمعول الطائفي على الجدار العراقي الصلب، انبرى شباب الحشد الشعبي للوقوف سداً منيعاً امام هذا الغزو التتري الجديد، وبذل التضحيات الجسام ليس فقط لتحرير الاراضي العراقية، وإنما لتحرير أهالي تكريت والرمادي والموصل وسائر الاقضية والمدن، ممن لاقوا الذل والمهانة من الفكر التكفيري المتحجر الذي رسم لهم صورة مزيفة عن الخلافة الاسلامية وتطبيق الشريعة والبديل المفضل لما موجود في بغداد.
من أين جاء ابطال الحشد الشعبي وابناء الشيعة بهذا المنهج في التعامل مع الاحداث، لولا إرشادات المرجعية الدينية التي تستقي رؤاها من منهج أهل البيت، عليهم السلام، وطريقتهم في التعامل مع اعدائهم وخصومهم.
إننا اليوم أمام استحقاق خطير ومنعطف تاريخي فاصل بعد تحرير الموصل وسائر الاراضي العراقية من عناصر داعش؛ هذا التنظيم الارهابي المشبوه الذي يشغل بال العالم بأسره، وابطال الحشد الشعبي هو الوحيدون الذين يلحقون به الخسائر الفادحة، فأي خطوة غير محسوبة في التعامل مع الاحداث، تسبب في هدر الكثير من التضحيات التي قدمها ابطال الحشد الشعبي وايضاً الدماء الزكية التي سالت في القصور الرئاسية وغيرها، ثم اندفاع الوضع السياسي والاقتصادي في العراق نحو المزيد من الفوضى والتأزم، الامر الذي يتعين المزيد من التماسك الاجتماعي على قاعدة القيم والمفاهيم السامية، فكما نجحنا في الظهور امام العالم بأننا جديرون بالوقوف امام المد الارهابي بعزم وإيمان راسخ، فنحن قادرون ايضاً على التسامي فوق الجراح كما فعل إمامنا أمير المؤمنين وسائر الأئمة، عليهم السلام، لحقن الدماء ونشر ثقافة السلم والتعايش، وليعلم المسلمون بأن أهل العراق جديرون بأن يجسدوا منهج الامام علي، عليه السلام، الذي يعرفوه يحبوه – ولو ظاهريا- ليكون السلم والحرية والعدالة وسائر القيم السماوية لجميع ابناء الامة الواحدة.
اضف تعليق