مهما يكن إنسان القرن الحادي والعشرين لكنه لم يستطع تعطيل ركن
أساسي في حياته وهو الروح فإذا به يثبت أنه كائن متدين بيقين، وأن
الدين حاجة متجذرة في أعماقه لا يمكن اجتثاثها ولا تجاوزها ويعود إلى
التدين الظاهر بطرق ومسالك مختلفة، وأحياناً بتعابير غاية في القدم
والغرابة معلنة عن رغبة ورهبة، وقلق وتعب، وبحث وطلب، بما تيسر له من
وسائل ولو اقتضى منه الأمر التخلي عن جزء من نفسه أو نفسه كلها.
ويبتسم الإنسان المتدين المعاصر بكثرة الترحال وقلة الاستقرار، حتى
إنه ليصبح كاثوليكياً ثم يبيت بروتستانتياً، أما في الغد فقد يؤمن ببعض
من المجوسية ليمسي كافراً بها. إنه متواصل البحث عن طرق وسبل عدة، لا
يتعب من طرق الأبواب الجديدة.
كيف يمكن أن نفهم هذه الغمرة في العقائد والأعمال الكثيرة المتطورة
إلى جانب الديانات التقليدية. لماذا يقبل الناس على المؤلفات والكتب
ذات الطبيعة الخيالية والسحرية والأسطورية مثل (هاري بوتر) و(أمير
الأطواق) و(الكيميائي) هل معنى ذلك صمود التدين في قلب الحداثة؟.
وكيف يمكن تفسير استمرار الإيمان حياً في النفوس رغم الأزمة الخانقة
التي شهدتها وما تزال تشهدها المؤسسات الدينية التقليدية: فالإيمان
بالله يبقى غالباً في الغرب، إذ أن (93%) من الأمريكيين و(67%) من
الأوروبيين يعلنون أنهم يؤمنون بالله. ماذا يختفي تحت هذا السطح؟ ماذا
يوجد في الأعماق؟
حسب الاستطلاعات المنجزة في أوروبا وأمريكا، يظهر أن الإلحاد
المتطرف مثل التدين الحرفي الدائم لا يقوم به إلا القليل.
في أوروبا حسب أكبر استطلاع حول القيم سنة (1999) فإن 07%) ملحدون
و(30%) متدينون ملتزمون) ومعنى هذا أن ثلثي الأوروبيين (ممن يشعرون
بالانتماء أو عدم الانتماء) ليسوا متدينين ملتزمين ولا ملحدين، فبين
طرفي الالتزام الديني واللاديني يوجد إيمان محتمل يشتعل وينطفئ يمكن
تسميته (الوميض الإيماني).
لكن الوضع الخطير هو أن العولمة فتحت كل الحدود وهدمت كل السدود
ودكّت كل الحصون واخترقت كل القصور فاسحة المجال للترويج والعرض
والتنقل أمام الأديان، متيحة للأفراد القدرة على تركيب ديانات شخصية
حسب قانون العرض العالمي.
وهكذا ساهمت الفردانية والعولمة في ظهور النزعات الطائفية والأصولية
وتطورها في قلب الأديان الكبرى: طائفيات واصوليات اعتبرت أجوبة
واستجابات ضد بعض التطورات العالمية خاصة الشكوكية وضياع الهوية
الجماعية والوحدة الوجودية.
أما الأوفياء الملتزمون بالتائبون العائدون فقد تمسكوا بدياناتهم
القديمة وعضوا عليها النواجذ لأخذ مسافة من العالم الحديث، في حين أن
أعضاء الطوائف الدينية الجديدة بنوا خطاباً نقدياً جديداً تجاه العالم
على الرغم من إنجاز ذلك من خلال ذاكرة أعيدت صيانتها وتركيبها.
خلال خمسة قرون، عرفت القارة العتيقة انقلاب الوعي الديني من الدين
الشامل المؤطر للمجتمع كله إلى الدين الشخصي الخاص، ويعتبر هذا
الانقلاب الضخم مفتاحاً هاماً لفهم الظاهرة الدينية المعاصرة.
حصل ذلك نتيجة الاستقلال المزدوج الذي يشكل المشروع الرئيس لعصر
الأنوار: تحرير العقل من قبضة الإيمان، وتحرير الفرد من قبضة التقاليد. |