تدأب السياسة الأمريكية دائماً في كل توجهاتها نحو العالم المعاصر
على تقديم فكرة أو مشروع أو نظرية أو أطروحة تستهدف من خلالها تأكيد
معاني السطوة والسيادة على مفردات القرية الكونية، بل ما ورائها،
واستحدثت هذه السياسة مصطلحات تبريرية جديدة في اتجاه عولمة القيم
باعتبارها مؤثراً فاعلاً يضمن بالضرورة ترسيخ المشروع العولمي الأمريكي
بكل حذافيره.
لا شك أن نزعة الاستعلاء الحضاري ومحاولات (ريتشارد هاس) نحو
التأسيس الأيديولوجي لأن تتحول أمريكا من جمهورية إلى إمبراطورية، كان
لا بد من أن يتغير السياق ويأخذ منعطفاً آخر وإن كان هو النقيض. فمن
قوة القيم التي اكتسبت أشواطاً تاريخية داخل المجتمعات الإنسانية إلى
قيم القوة الحادثة بفعل طفرة خولت للكيان الأمريكي أن يتخذ من القوة
قيمة وأداة تسلط على الشعوب بدلاً من أن يتخذها وسيلة لانقلاب جذري في
داخل الهرم القيمي للمجتمعات يستهدف إقرار التواصل والحوار والتسامح
والمعايشة والاندماج والتوحد. وحين تصبح القوة هي القيمة الفارقة
والنوعية فإنها تدعم الصدام كقيمة عليا وليدة، تستدعي بذاتها خلق
الأعداء واعتبارهم المحور الأمثل للشر، ومحاولة إعادة كشف الآخر
وتعريته أمام ذاته لتظل القرية الكونية بوتقة مشتعلة يكتنفها الصراع
الدائم.
وكل ذلك يتناقض مع الدعوة نحو التأصيل الإيجابي لقيم النموذج
الحضاري بصفة عامة، فلم يعد أحد يجادل في عالمنا اليوم حول أهمية قيم
الديمقراطية وحقوق الإنسان في إطار لحظة الارتقاء البشري.
ولكن هل يراد لهذه القيم أن تحيا بالفعل خارج القارتين الأمريكية
والأوروبية؟ وهل يراد لها أن تسود العالم حقاً وتصبح ممثلة لقرن جديد،
يتسق الطابع الإنساني فيه مع مستوى الأداء التقني؟ أم يراد لهذه القيم
أن تكون هي الغطاء الذي يسمح بالازدواجية بين القول والفعل والواقع
والمثال؟
المشكلة تكمن في بؤرة واحدة تمثلها الممارسة الفعلية لتلك القيم، هل
ستكون طبقاً للمفهوم الأمريكي أم تبعاً للمفهوم المطلق؟ والإجابة هي من
الوضوح بحيث يمكن أن نسأل: لماذا ترفض الشعوب الاستجابة لهذا النموذج
المهترئ؟
ثم طريقة الغرس والإدماج لهذه القيم في النسيج القومي ذات الطابع
الوحشي الأمريكي ينفر الناس من العولمة بل تجذر القومية والتمسك بها
لحفظ المزايا الثقافية والاجتماعية.
فلا غرابة من منظري البنتاغون بوضعهم تفاصيل الحرب المقبلة التي
ستمثل مرحلة تاريخية فاصلة في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية
الساعية نحو تطبيق سياسات العولمة بالقوة العسكرية لتحقيق أمنها
الاستراتيجي، وطبقاً لذلك رسمت خريطة ذات ملامح خاصة تشير إلى مدن زمني
محدد للعمليات العسكرية، وهي تعتمد في تقسيمها الجيوبولوتيكي للعالم
على معيار واحد هو الأمن الاستراتيجي الأمريكي، لذا قسمت العالم إلى
مناطق مناوئة للعولمة ومناطق مؤيدة لها. لكن الواقع شيء آخر حيث يزداد
شعوب العالم تمسكاً بالقومية ورفضاً للعولمة. |