في ظل التساؤلات عن إمكانية اكتساح العولمة للقوميات هناك أنباء
بحدوث شيء غريب يعيق طريق العولمة: فقد أصبح العالم أكثر تمسكاً
بالفلسفة القومية حتى في ظل تحطم الحدود القومية بسبب حرية التجارة
والتدفق السريع لرؤوس الأموال.
حتى أمريكا الداعية إلى النظام العالمي الجديد وتحاول تصديرها إلى
بقية دول العالم فالشوفينية فيها والتلويح بالأعلام الأمريكية ليست
ظاهرة جديدة، فقد رفع الرئيس بوش شعار (أمريكا أولاً) إلى أيديولوجية
جديدة بعد (11) أيلول وتعرض للإدانة بسبب ذلك من قبل المدافعين عن
فلسفة العولمة منذ أطلق العنان أول مرة لتطبيق سياسة التصرف من جانب
واحد في الشؤون الدولية، ولكن مناهضي بوش ربما لا يرون الحقيقة وهي: إن
الجميع قد أصبح أكثر تمسكاً بالفلسفة القومية هذه الأيام. فالعولمة على
عكس الافتراضات التي سادت قبل عشر سنوات ليست قادرة فعلياً على اكتساح
الهويات القومية، وفي الحقيقة تعدّ هذه الظاهرة فلسفة قومية جديدة
ونوعاً من الأصولية الجيوسياسية، حيث يرجع الناس إلى الهويات القديمة
كوسيلة لمواجهة توترات العولمة.
شهدت الأسابيع الماضية بعض الأمثلة حول هذه الانطلاقة القوية
الجديدة للمشاعر القومية حتى إن بدت غير عقلانية أحياناً، فالصينيون
يبدون وكأنهم خرجوا عن توازنهم بمظاهرات الشوارع الاحتجاجية ضد تنقيحات
جديدة لكتب مدرسية يابانية، فالصينيون يقولون ان النصوص حافلة بالأعمال
الوحشية التي ارتكبت ضد الصين خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن
اللافت للنظر أكثر الهتافات والمشاعر القومية المنفلتة من عقالها
للمتظاهرين في شوارع المدن الصينية، ثم هناك فرنسا، فبعد أن دفعت الدول
الأوروبية على مدى جيل كامل نحو وجهة نظرها الخاصة بأوروبا موحدة –
وبعد أن تولى الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جسكار ديستان قيادة عملية
كتابة دستور جديد لأوروبا – أصبح الجمهور الفرنسي يميل لرفض المصادقة
على الدستور في الاستفتاء المقرر إجراؤه هذا الشهر. ربما يصادق
الفرنسيون على الدستور في نهاية المطاف ولكن الدرس شديد الوضوح،
فالتصور القديم لأوروبا شبه فدرالية يجب أن يستوعب الفلسفة القومية
الجديدة التي تتحرك الآن عبر أوروبا، فالفرنسيون ومعظم الأوروبيون
الآخرين يريدون صيانة سيادتهم القومية وثقافتهم القومية وامتيازاتهم
القومية وحماية أسواق عملهم القومية، فهذه النزعات القومية قد تكون غير
فعالة بالمفهوم الخاص بالأسواق الحرة ولكن وجود دستور أوروبي يحاول
شطبها من الوجود سوف يفشل.
يقول (ريجينتو بريجنسكي) مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق إن
الفلسفة القومية الجديدة في أوساط الشباب تُشعل فيتل بعض الحركات
المقلدة لحركات قومية سابقة، فالثورة (البرتقالية) الأوكرانية قامت
بدفع جزئي من قبل شباب محتجين في الشوارع ينتمون إلى مجموعة تسمى (حان
الوقت) – ويضيف قائلاً: ورداً على الثورة الأوكرانية قام الرئيس الروسي
بوتين بتشجيع حركة جديدة تدعى (ناش) مصممة خصيصاً لاجتذاب المشاعر
القومية للشباب الروسي ويخشى بريجنسكي أن هذه الظاهرة لتنامي المشاعر
القومية يمكن أن تتفاقم وتتحول إلى (فاشية) روسية بقيادة الجناح
اليميني.
إن حب الإنسان لبلاده من المشاعر المحمودة ولكن هذه المشاعر نفسها
هي التي تسببت بإسالة أنهار من الدم على مرّ القرون، وعليه فإن الحلم
الذي بدأ عقب عام (1945) بقيادة الولايات المتحدة لإيجاد مؤسسات دولية
قادرة على توفير نوع جديد من الأمن العالمي قد بات في مهب الريح،
وسيكون من سخريات أن تكون إدارة بوش وهي ترى هذا الصعود القلق لفلسفة
القومية هي مَنْ يساعد على قيادة طريق العودة نحو مؤسسات دولية متعددة
الأطراف تتمتع بالحيوية والصلاحية، ولست استبعد ذلك أبداً – خصوصاً على
نهجه العسكري العنيف. |