كانت ظروف الدعم المالي في الشتات صعبة جدا بالنسبة للمعارضة
البحرانية بعد أحداث عام 1982م أبقت بفكرة النشاط السياسي المستقل رهن
امتحان عسير جدا ، وجعلت منها قيمة رائعة جدا تجسدت أمامنا في هيئة
محمودة استحقت منا التضحية والصبر على نتائجها وظروفها القاهرة .
ففي العاصمة اللبنانية على سبيل المثال ، قادتنا تلك الظروف إلى
البحث عن سكن مؤقت بأسابيع معدودة يكون لنا فيه مكتبا إعلاميا وقاعدة
أساسية مسخرة لإطلاق حملة إعلامية واسعة مطالبة بالإفراج عن أصدقائنا
من مجموعة الـ73 السجينة على خلفية " مؤامرة" اصطنعها قانون أمن الدولة
حيث كان محط سخط عام فضلا عن سخط دولي حاد .
ولأن السكن رخيص الأجر لا يتحصل في تلك الفترة الزمنية إلا في دوائر
التوتر بين كانتونات الجماعات المتحاربة أو بالقرب منها ؛ جررنا لسوء
الحظ إلى شقة تقع على خط التماس بين منطقتي حزب الله وحركة أمل تطل على
الشارع الفاصل بين منطقتي "الغبيري" و"الشياح" في الضاحية الجنوبية
لبيروت.
ولم يكن أحد منا يخشى النتائج المترتبة على العيش عند خطوط التماس
لإيماننا الكبير بأن النضال لا يقدم أجلا ، لكن الظريف في مثل هذا
الأمر أننا كلما مررنا بمنطقة "الشياح" انطلاق من "الغبيري"في طريقنا
إلى بيروت حيث مكاتب الصحافة وبعض الشخصيات السياسية اللبنانية التي
كنا نتأمل منها التأييد والتضامن الإعلامي والسياسي في قضية سجناء "الجبهة
الإسلامية لتحرير البحرين" – شاهدنا من يتبعنا ويراقبنا من عناصر الأمن
في حركة أمل . وكلما شئنا العودة إلى مكتبنا قاصدين اتجاه "الغبيري"
مرورا بمنطقة " الشياح"شاهدنا من يتبعنا ويراقبنا من عناصر الأمن في
حزب الله! .
ومن خلال لقاءاتنا المكثفة بالقيادات الإعلامية لحركة أمل وحزب الله
لمسنا استياء من كلا الطرفين مقدما على استفهامات مثيرة للاستغراب عن
أسباب اختيارنا للسكن في تلك المنطقة الأمنية الحساسة جدا ونحن من أهل
البحرين وتحوم حولنا شكوك وشبهات بالانتماء أو التعاون مع أحد طرفي
النزاع "الحركة" أو "الحزب" أججها قانون أمن الدولة في بلدنا من خلال
إشهاره تبعيتنا للخارج وعدم استقلالنا تمهيدا لرفع مستوى العقوبات التي
نصت عليها محاكم قانون الطوارئ! . فاضطررنا عند كل لقاء إلى تفسير
خلفيات الاختيار لموقع السكن وان " الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين "
لها موفدها الإعلامي الخاص إلى بيروت لأداء مهمة محدودة ليس لها أية
علاقة بالمشاكل الأمنية بين الحركة والحزب في الضاحية، بل أن الموفد
جاء ليحمّل الطرفين في الحركة والحزب مسؤولية المشاركة في الدفاع عن "الحرية"
والمطالبة بالإفراج عن إخوانهم من سجناء الرأي في البحرين .
وصل الاخوة في حركة أمل إلى قناعة تامة بمقاصدنا ووسائلنا لكونهم
الأكثر معرفة وخبرة بالنشاط السياسي الخليجي . وفي المقابل أبقى "حزب
الله" مكتبنا الإعلامي تحت المراقبة ، ولم يكن هذا الأمر بذات أهمية
بالنسبة لنا .
ولطمع فينا بكسب ثقة الحزب إلى جانب وظيفتنا الإعلامية وبأهمية
تعريف الحزب بهويتنا واستقلالنا السياسي ؛ ضَربتُ موعدا للقاء مع السيد
نصر الله الذي كان مسئولا أمنيا عن ضاحية بيروت الجنوبية آنذاك ، فشرحت
له الكثير عن "الجبهة الإسلامية" ودعوته إلى معرفتنا من خلالنا وليس من
خلال أطراف أخرى غير نزيهة تستهويها النميمة ولا تعكس الصورة الحقيقية
عنا ، وفصّلت له في وظيفتنا في بيروت وحملته مسؤولية التدخل السياسي
ومطالبة حكومة البحرين بالإفراج عن إخواننا بعد انتهاء فترة أحكامهم ،
ولم اغفل تذكيره بعناصر الرقابة الأمنية لمكتبنا .
كانت استجابة السيد نصر الله أمامي سريعة جدا شملت مشاورات واتصالات
متعددة بدون أي تكلف ، ففكت الرقابة ورحب بنا ضيوفا على الساحة
اللبنانية. ولم أغادر مكان اللقاء إلا بعد أن أحطت السيد نصر الله
برؤيتنا في القضايا السياسية وتصوراتنا لضرورة العمل باستقلالية تامة
وحرية مطلقة برغم معرفتنا لمستقبل مثل هذا القرار الذي سيدفّعنا الكثير
من الثمن على الصعيد المحلي في الساحة البحرانية وربما يفقدنا بعض
حلفائنا وأصدقائنا . فرؤيتنا كانت واضحة تماما ولنا يقين بأن نتائج
مقاصدنا على طريق بناء مجتمع مسلم نقي من شوائب الشعارات السياسية
المجردة أو الأهداف والمرحلية العشوائية المبنية على تبعية جاهلة
بمتطلبات بيئتنا الاجتماعية -ستكون مجدية وشائعة بشفافيتها وصراحتها ،
فالتوفيق توفيق من الله سبحانه وتعالى لا غيره من أرباب السياسة.
إن مشكلتنا الرئيسية في البحرين منذ ما قبل عهد قانون أمن الدولة
ومن بعد قانون "مكافحة الإرهاب" الذي يطل علينا بوجه آخر لقانون أمن
الدولة سيئ الصيت ، أننا نصدر مشاكلنا إلى الآخرين من حلفائنا
وأصدقائنا في داخل البحرين وخارجها بنفس طرق الوشاية والنميمة التي
يتناقلها كل رئيس عربي ضد نظيره إلى حلفائه من الغربيين .
فكم من وشاية ونميمة نقلت إلى ابسط من نرتجي منه التضامن مع قضايانا
، ووصلت إلى بعض الصحفيين الصغار في خارج البحرين ، حتى اتسمت بعض هذه
الجهات بالسخرية من وسائلنا النضالية في وقت يدعي أكثرنا بأنه يمثل
سلوكا معارضا "حضاريا"!. وإننا حين نفشل بوسائل النميمة في إخضاع الآخر
نلجأ إلى التحالف الحرام ضده حتى مع جهات الاستبداد بشكل مباشر عبر
الوشاية أو بشكل غير مباشر عبر تصنيف المعارضة لهذه الجهات إلى طرفين :
متطرف تبعي ، ومعتدل وطني ، فنلقي بتهمة التطرف والتبعية على منافسنا
حتى يستحق أشد العقوبات من قبل جهة الاستبداد ، ثم نتظاهر بالاعتدال
والوطنية ديدنا ومنهجا حتى نكوّن من جهتنا الجهة الأكثر استحقاقا
للحوار مع هذه الجهة المستبدة.
ففي قضية معالجة نشاط تيار "حزب الله" في البحرين ودوره المثير
للمشاعر " الوطنية" لما كان يتبنى من شعارات خاصة به في مسيرات محرم
الحرام وغيرها فحدث عن كل نميمة ووشاية ولا حرج . فإلى جانب الرفض
الشعبي للنيل من أية جهة بحرانية مناضلة وتقديره لجهودها في العمل
الثقافي والاجتماعي الأساس للمساهمة في التشجيع الجاد .. والى جانب
الرفض الشعبي لتمثيل الجزء عن الكل أمام السلطات بمنهج التفاف صريح
وواضح على الكل لغرض الإخضاع القسري بلا حق ؛ ُنقلت صور نميمة لجهة بعض
العناصر الرسمية قصد منها الفصل بين المشاريع السياسية الشعبية بين "وطنية
تقليدية" و" أجنبية دخيلة مستهجنة" ، كما قصد منها رجاء إظهار التجرد
عن شعارات تيار "حزب الله" وإعلامه وصوره ، ووصف هذا التيار بعدم "
الوعي لمتطلبات الوضع الراهن" وجهله بمفهوم " الوطنية" و" تمرده على
التوجيه العام". فحق على تيار"حزب الله" أن يعبر عن ذاته ويعرفها
للآخرين كناشط تمثل في الساحة في وقت غاب الجميع عنها ، وأنه ساهم من
خلال مراحل مختلفة بدور سياسي لم يكن بحاجة إلى اكثر من توجيه يقربه
اكثر من معالجة القضايا الوطنية معالجة حرة ومستقلة .
وبكل ما سجل لتيار"حزب الله" أو عليه خلال مسيرات محرم على وجه
الخصوص، فقد نما وتضخم هذا التيار في البحرين بلا تنظيم وقيادات حركية
واسعة العلم والمعرفة والخبرة ، وأخذ به الإحباط الذي ولدته حكومة
الشيخ خليفة آل خليفة بجانب تراكم عواطف القهر الطائفي - إلى رفع
شعارات وصور واعلام الفوز والنصر هنا وهناك . وكان للإعلام الإيراني
واللبناني الأثر الأكبر في بلورة أفكار هذا التيار وشعاراته في الفترة
الواقعة بين عام 1983م ونهاية العقد الأخير من القرن الماضي ، حيث شهدت
البحرين فراغا للأنشطة السياسية والاجتماعية الحركية التقليدية
المعارضة التي اتخذت من بلاد الشتات ملجأ لها بعد اشتداد وطأة الهجمة
الشرسة لقانون أمن الدولة وللأجهزة الأمنية بقيادة حكومة الشيخ خليفة
آل خليفة في جميع الميادين السياسية والثقافية ، حتى توزعت رموز وثقافة
"حزب الله" على اكثر مناطق البحرين بما كان لها من اثر عاطفي كبير ،
فحلت مسمياته وصوره واعلامه المعروفة بديلا عن رموز الحركة التقليدية
المعارضة المتناثرة على أراضى اكثر من سبعين بلدا فضعفت تياراتها
التقليدية وضمر أثر فعلها على الساحة البحرانية.
وقد استدار هذا التيار بين عامي 1995 و 1998م لمسيرة الشيخ عبد
الأمير الجمري(شفاه الله وعافاه) وشارك بشكل فاعل في دعم مفاصل ومراحل
نشاط حركته الدستورية بغير تنظيم ومنهج عمل ، وخضع لبعض توجيهاتها بناء
على الرغبة في تنسيق جهود العمل بين الداخل و الخارج. لكن هذا التيار
الواسع ظل محط نظر ألباب بعض رموز الحركة السياسية التقليدية البحرانية
في الخارج، فسعت مرارا إلى استيعاب هذا التيار عبر ضمه بعض عناصره
الفاعلة إلى أطرها الاجتماعية والسياسية الخاصة وذلك من خلال تقمص دور
قيادي يوحي بصور رمزية ظاهرية بكسب ترخيص شرعي غير عادي يخولها اعتلاء
سدة قيادة تيار"حزب الله" وملئ الفراغ القيادي الحاصل في هذا التيار.
وتعد هذه الخطوة على طريق استيعاب تيار"حزب الله" قياديا من المظاهر
السياسية المهمة التي تسجل للقادة والرموز التقليدية في البحرين برغم
المآخذ التي سجلت على الوسيلة ،لكن الأمر لم يسر بمثل ما كانت ترجوه
وتتمناه هذه القيادات. فهنالك مشكلة أساسية في هذا التيار تتجسد في
كونه"تيارا شبابيا" اعتاد على سلوك معارض بلون محدد يصعب الخروج عليه
أو توجيهه إلى لون تقليدي آخر ، إضافة إلى غياب هذا التيار عن أي فكر
اجتماعي ينظم سيره وطريقته.
ولأن قيادة تيار "حزب الله" التقليدية الجديدة هذه قيادة " إيحائية"
منشغلة بالبعد السياسي على حساب الأنشطة الثقافية والاجتماعية الأساسية
..ولأن الفرص المتاحة لهذه القيادة منذ وضعت نفسها على رأس هذا التيار
كانت غير كافية في ظل تسارع الحدث السياسي .. ولأن هناك الكثير من
الرموز الشبابية المتنافسة على قيادة هذا التيار تعتبر نفسها أحق
بالقيادة والتوجيه لأنها عاصرت نشء هذا التيار وساهمت بشكل مباشر في
بلورته ونموه ، ولقربها من "القيادة الرمزية العليا" وتمثلها في الوقت
الراهن فقهيا وربما حركيا ؛ فلا رأي حقيقي مطاع للقيادات التقليدية
المركبة على رأس هذا التيار حتى الآن ، فضلا عن كونها لا تملك استطاعة
متكاملة في إدارة وتوجيه هذا التيار ،وربما تداخلت مرارا للجم بعض
مظاهر نشاط هذا التيار التي تعدها حكومة الشيخ خليفة آل خليفة استفزازا
للـ"الوطنية" ، كما تداخلت مرارا لإخراج هذه المظاهر في غير مرة على
كونها خدمة للمسار السياسي المحلي العام المنادي بالإصلاح الدستوري
أولا .
كل ذلك ساهم في اتساع هوة الخلاف بين القيادات التقليدية والرموز
الشبابية الجديدة لتيار"حزب الله" ، لكن مسيرات عزاء عشرة محرم الماضي
وما أعقبها من احتجاجات حكومية وبرلمانية متزامنة مع صدور قانون "مكافحة
الإرهاب" ؛ وضعت القيادات التقليدية أمام محك ثقيل الظل قد تختبر أمامه
قدراتها على السيطرة ولملمة مناطق تيار"حزب الله" . وربما كانت المسيرة
المنطلقة في جزيرة سترة واحدة من أهم مظاهر ذلك التحدي لإثبات سيادة
لون تقليدي واحد خال من أشكال ورموز تيار"حزب الله" ، وهذا ما جعل
حكومة الشيخ خليفة آل خليفة تميل إلى التصديق بتلك السيادة الخالية من
آثار تيار"حزب الله" إلى جانب ميلها الشديد إلى الخشية من سيادة لون
تقليدي معارض واحد.
فهل يسود الأيام القادمة شعور واحد مشترك بين الزعامات التقليدية
المعارضة وحكومة الشيخ خليفة آل خليفة يكون ناتجا وترا عن مشروع مشترك
يفضي في منتهاه إلى إنهاء جميع مظاهر تيار "حزب الله" الذي يشكل مراد
السفير الأمريكي في البحرين (وليام مونرو )، وما هو المقابل الذي سيحصد
في مثل هذه المقايضة؟!
K_almhroos@yahoo.com |