لم تقتصر تداعيات المشهد السياسي اللبناني على الاعلام المحلي فحسب بل
تجاوزته وكالعادة الى مديات ابعد واوسع سواء على الصعيد العربي او
الاقليمي. واذا كان المتوقع حصول اصطفافات اعلامية محلية وفقا
للاصطفافات السياسية التي تتقاسم الشارع السياسي اللبناني بين ما بات
يعرف بـ(الموالاة) في اشارة للاحزاب السياسية الموالية لسوريا ولنظام
الحكم في لبنان وبين (المعارضة) في اشارة للقوى السياسية التي تعارض
التواجد السوري في لبنان وتعارض النظام الحالي, فان الملفت للنظر هو
انعكاس تلك الاصطفافات على الاعلام العربي وتخندقه مع هذا الجانب
اللبناني او ذاك. ويمكن للمتابع ملاحظة ذلك من خلال القنوات الفضائية
العربية وتحديدا كل من قناتي (الجزيرة) و(العربية).
بداية لابد من الاعتراف ان كلتي القناتين تتسيدان الفضاء العربي بلا
منازع.
كذلك تمثلان اتجاهين سياسيين يكاد يتنازعان, ولهما اجندة سياسية مختلفة
ان لم تكن متضادة, بيد ان (الجزيرة) باعتبارها ظاهرة في الاعلام العربي
الرسمي وغير الرسمي ـ على القول بوجود هذا الاخير ـ كانت اكثر وضوحا
بالتخندق وراء الاصطفافات اللبنانية الحالية وانعكس ذلك على خطابها
الاعلامي بشكل جليّ.
وقبل الولوج الى صلب الموضوع ومحاولة سبر اغوار هذا التخندق, اود ذكر
القصة التالية التي تكشف حجم ذلك التخندق لدى القناتين المذكورتين. كنت
قبل ثلاث اسابيع ضيفا على برنامج (الاتجاه المعكاس) الذي يعده الاعلامي
المثير للجدل فيصل القاسم وكان موضوع حلقته يتمحور حول ماعرف حينها
بـ(ثورة الارز) التي قادتها المعارضة اللبنانية بعيد اغتيال الحريري.
جلست والضيف الاخر في مكتب السيد فيصل القاسم والذي كان يضم مكتب نائب
التحرير حيث تناول الحاضرون الشأن اللبناني وكنت استمع فقط للقاسم الذي
كان يتحدث عن غريمتهم اعني قناة (العربية) ومما لفت انتباهي في حديثه
هو امتعاضه من عدم اكتراث (العربية) للمظاهرة المليونية التي دعت اليها
(الموالاة) واستهجانه لهذا الاكتراث الذي وصفه بـ(اللاامانة
واللامسؤولية).
من هذه الحادثة عرفت مدى الاحتقان الذي تعانيه (الجزيرة) والذي يبدو
انه رد فعل لموقف (العربية) وكذلك تبين لي حجم تورط الاعلام العربي في
الشأن السياسي اللبناني. طبعا لا داعي للتذكير بلا حيادية ذلك الاعلام
وبالتالي يكون ذلك التورط نتيجة منطقية للاحياديته. والسؤال هو لماذا
تبنت (الجزيرة) موقف (الموالاة) بينما تبنت (العربية) موقف (المعارضة)؟
بالاضافة الى الخصومة والعداء الذي تجاوز طابع التنافس الشريف بين
القناتين والذي طبع العلاقة بينهما منذ حين, فانه توجد اسباب اخرى لهذا
التبني الذي راح يشكل احدى ادوات الحرب بينهما . و اهم هذه الاسباب هي:
اولا: مثلّ الخطاب الشعاراتي القومي الاسلاموي العمود الفقري لخطاب (الجزيرة)
الاعلامي والذي حاولت تسويقه للعالم العربي من جديد بعد ان اعتنقته
ولكن بحلة جديدة, ذلك الخطاب الذي يقوم اساسا على اثارة عواطف ومشاعر
المشاهد من خلال الضرب على وتر القضية الفلسطينية التي يتعاطف معها
الجميع ومن هنا فانه ومن البديهي ان تتبنى (الجزيرة) موقف (الموالاة)
التي لاتزال تجتر نفس مضامين ذلك الخطاب.
اما (العربية) فكان من المتوقع تبنيها لموقف (المعارضة) التي اعلنت
ثورتها على قاتلي الحريري وجعلت من دمه قميص عثمان خصوصا اذا ما علمنا
ان المرحوم الحريري كان رجل السعودية في لبنان علما ان (العربية) تعود
ملكيتها للسعودية التي تناكف العهد الجديد في قطر وهذا سبب ثاني
للاصطفافات وكدليل حسي على ما زعمنا هنا هو موقف مراسل (العربية) السيد
علي نون في بيروت الذي اجهش بالبكاء لحظة سماع نبأ اغتيال الحريري ولم
يستطع تغطية الحدث حينها بينما وبالطرف الاخر كان مدير مكتب (الجزيرة)
السيد غسان بن جدو يعكس الاخبار لقناته بشكل طبيعي لا ينم عن اي تأثر
بالحدث. بكاء النون على مصرع الحريري التراجيدي ذكرني ببكاء جميلات (الجزيرة)
لاسيما الحسناء ايمان بنورة والمعروفة بـ(ساندريلا الجزيرة) على صدام
يوم سقوط صنمه في نيسان قبل عامين مع فارق بالقياس بين البكائين.
ثالثاً: مدير قناة الجزيرة الحالي هو السيد وضاح خنفر الجزائري الاصل
القطري الجنسية الفلسطيني الهوى والذي حلّ محل المدير السابق جاسم
العلي الذي اُقيل من منصبه بعد افتضاح علاقته بنظام صدام البائد وتلقيه
الرشاوى منه. اما مدير(العربية) فهو السيد عبد الرحمن الراشد رئيس
تحرير صحيفة (الشرق الاوسط) سابقاً السعودي الاصل والجنسية. السيد خنفر
يُقال انه من مؤيدي حركة (حماس) ومقرب منها وهو بالتالي سينظر الى
الشأن اللبناني بمنظار(حمساوي) فلسطيني ذلك المنظار الذي يعتبر الحديث
عن السلام مع اسرائيل (كفر) وخيانة ومن هنا لما كانت (الموالاة) تشاطر
الفلسطينيين هذه الرؤية ولما كانت سوريا التي تدعم (الموالاة) من
المساندين للموقف الفلسطيني ولما كان السيد خنفر فلسطيني الهوى فانه من
الطبيعي ان يطلب من قناته ان تتبنى موقف (الموالاة) في لبنان ليس حبا
بها ولكن لان موقفها يصب في خانة القضية الفلسطينية.
اما الراشد فانه وان كان من جذور قوموية اسلاموية الا انه مرّ بصيرورة
فكرية نتج عنها اعتناقه الليبرالية واخذت كتاباته الاخيرة تنحى هذا
المنحى خصوصا فيما يتعلق بالشأن العراقي والفلسطيني مما سبب له المشاكل
مع مالكي صحيفة (الشرق الاوسط) انتهت بتركه لرئاسة تحريرها وتكليفه
بادارة (العربية) التي انشأت اصلا لتقف بوجه المد (الجزيري) القادم من
الدوحة وقد نجحت في ذلك الى حد كبير. انعكست عقلية الراشد على قناته
وراحت من خلال برامجها تتبنى النهج الاصلاحي وخصوصا برنامج (اضاءات)
الذي يقابل النهج الرديكالي لضرتها (الجزيرة) وحيث ان هذه الاخيرة تبنت
موقف (الموالاة) الرديكالي رأينا (العربية) تتبنى موقف (المعارضة) الذي
يتماشى وتوجهات الراشد الليبرالية.
اخيرا لا يمكننا ان نتوقع موقفا موضوعيا وحياديا للاعلام العربي بشكل
عام ولهاتين القانتين تجاه ما يحدث في لبنان او فلسطين او العراق وان
كان موقف (العربية) مع الشأن العراقي أخف وطأة من (الجزيرة) التي ناكفت
المشروع الامريكي التغييري في المنطقة العداء منذ البداية وتحولت الى
ناطق باسم المتشددين من قوميين واسلامويين بل اكثر من ذلك اثبتت
الاحداث الاخيرة تورط بعض العاملين فيها بأعمال توصف ارهابية كما هو
الحال مع مراسلها السيد تيسير علوني وما تناقلته وسائل الاعلام
العالمية اخيرا من ان منفذ عملية التفجير في الدوحة هو اخ لأحد موظفي
قناة (الجزيرة), اقول لا يمكننا ان نتوقع حيادية في التعاطي مع الشأن
اللبناني اذا ما علمنا ان وسائل الاعلام العربي تعود ملكيتها للانظمة
العربية المتصارعة في مابينها والمتضادة في اجندتها خصوصا كلا من قطر
والسعودية اللتان لا تخفيان صراعما السياسي ذلك الصراع الذي يظهر في
ثنايا الخطاب الاعلامي لكل من (الجزيرة) القطرية و (العربية) السعودية
في الشأن اللبناني وغيره.
almossawy@hotmail.com |