منذ سقوط النظام السابق 9/4/2003 ولحد ألان ، ونحن نسمع مفردة
الديمقراطية تترد على السنة الجميع ، وغالبا ما تلحق إساءة حقيقة
بمفهومها ، فيتكلم السائق عنها وكأنها تعني حرية تجاوز قوانين السير
والقائمين عليها ، بينما هي عند البائع تعني حرية استغلال المستهلك من
اجل الربح ، كما قد يرد الحديث عنها في دوائرنا ومؤسساتنا وكأنها تعني
حرية تجاوز المستويات الوظيفية الأدنى للمستويات الأعلى ، واستغلال
الوظيفة من اجل المنفعة الخاصة ، في حين تصورها بعض القوى السياسية على
أنها استخدام القوة في فرض الرأي على الآخرين .
أن هذا الجهل بحقيقة الديمقراطية يتطلب دراسة مفهومها بشكل دقيق ،
وتحديد متطلبات التحول الديمقراطي الناجح في عراق اليوم والمستقبل ،
ولن أحاول في هذه الورقة كيل الانتقادات إلى صانعي القرار في عراق ما
بعد صدام حسين ، فنحن نعرف حقيقة الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي
الذي تحركوا فيه وما قد يكون اخطر هو إليه من تكتيكات نتمنى أن تكون
مرحلية ، ولكن يجب أن يتجاوز مثقفونا الزمن الذي حاول فيه السياسيون
جعلهم أداة لتبرير أعمالهم وإضفاء الشرعية عليها ، إذ إن الحقيقة هي إن
السياسي هو أداة المثقف في تحقيق التغيير الاجتماعي لذا يجب على الأخير
أن يحدد الإطار الفكري واتجاهات التحرك التي ينبغي على صانع القرار
السير فيها .
مفهوم الديمقراطية :
تعد الديمقراطية وسيلة إجرائية يتم من خلالها تداول السلطة ، وإذا
كان أصلها اليوناني يعني حكم الشعب ، فان فهمها بهذا الشكل لا يوضح
حقيقتها ، لذا جرت محاولات كثيرة لتعريفها ، فهذا ’’ ليسلي لييبسون ‘‘
يقول : ’’إن الديمقراطية هي نظام سياسي يترك سلطة زعمائها أبداً تحت
المراقبة ، وقيد الإشراف مع إفساح المجال لعبقرية الفرد السياسية
للتعبير عن ذاتها ‘‘وعرّفها ’’ ليوناردو وولف ‘‘ ’’ بأنها الفكرة
القائلة بان أية حكومة ، إنما تقوم بغرض السهر على مصلحة مواطنين أحرار
ومتساوين اتحدوا سياسيا من اجل تحقيق هدف عام وهو سعادة الفرد والمجتمع
‘‘.
وإذا كانت الديمقراطية ’’نظام السلطة الذي يكفل الحريات ..فإنها لا
تخلق الحريات حيث لا توجد ، ولا توجد هي نفسها من دون نمو روح الحرية
في المجتمعات ، ففي غياب هذه الروح ليس هناك ما يمنع السلطة من أن تكون
لا ديمقراطية ‘‘ وهذه الحقيقة جعلت الفقيه الفرنسي ’’ جورج بوردو ‘‘
يقول عن الديمقراطية : بأنها ’’فلسفة وأسلوب حياة وشكل للحكم .. ‘‘ ،
لذا فان فهم الديمقراطية على إنها شكل للحكم يعد فمها قاصرا ، إذ لا
قيام لنظام الحكم الديمقراطي بدون وجود المجتمع الديمقراطي ، ولن تتحقق
الديمقراطية مع وجود قوى سياسية تؤمن بفلسفة الرشاش والمدفع في العمل
السياسي ، فمن الأمور التي جعلت المجتمع العراقي يعاني الكثير من
الويلات والانتكاسات خلال عمر الدولة العراقية منذ عام 1921 ولحد الآن
هو غياب الروح الديمقراطية في علاقات القوى السياسية والاجتماعية
ببعضها ، وإيمان أكثرها بالفكر المطلق الذي ينزه ألذات ويكفر ويخون
الآخرين ، ويبيح تصفيتهم وإلغاء دورهم في المجتمع .
وان فهم الديمقراطية على إنها فلسفة للحكم وأسلوب في الحياة هو عينه
ما دعا إليه الإسلام قبل أكثر من 1400 سنة ، إذ جاء في كتاب الله ((عز
وجل)) قوله سبحانه وتعالى {وشاورهم في الأمر} . ( آل عمران الآية 159 )
، وهذا خطاب موجه إلى قمة السلطة السياسية ممثلة في رسول الله (( صلى
الله عليه واله وسلم)) لكي تكون علاقتها بقاعدتها الاجتماعية مبنية على
أساس الشورى وحرية الرأي ، ثم يأتي الخطاب الرباني في آية أخرى فيقول :
{ والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة أمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم
ينفقون } (سورة الشورى الآية 38 ) قرن الله الشورى بإقامة الصلاة في
علاقة المسلمين ببعضهم ، وهو تأكيد للمسلمين انه لا تكفي ديمقراطية
السلطة حتى تكونوا أحرارا ، بل لابد من أن تكون روح الحرية متغلغلة
فيكم من خلال علاقتكم ببعضكم ، أي كن حرا لتفرض حريتك على السلطة ، ولا
تكن عبدا فتساس بالاستبداد .
متطلبات تحقيق التحول الديمقراطي في العراق :
إن الأنظمة الاستبدادية تتميز بخمس عناصر رئيسية هي :
1- احتكار النشاط السياسي ليقتصر على حزب واحد .
2- تحرك ذلك الحزب بفعل إيديولوجية تغدو الحقيقة الرسمية للدولة.
3- تمنح الدولة نفسها احتكار وسائل القوة والإقناع.
4- معظم النشاطات الاقتصادية والمهنية مندمجة بالدولة وخاضعة
للحقيقة الرسمية .
5- الخطيئة الاقتصادية والمهنية تغدو خطيئة إيديولوجية، وعليه
فينبغي أن تعاقب بإرهاب إيديولوجي وبوليسي في أن معاً.
إذاً، على من يرغب في إقامة نظام حكم ديمقراطي أن يراعي ضرورة تجاوز
هذه العناصر الخمس المذكورة أنفاً في نظامه وإلا اتهم بمصداقية دعوته
إلى الديمقراطية، ولكي يكون التحول الديمقراطي في العراق صحيحا يجب على
أبناء هذا الشعب توفير الآتي:
أولا : البناء القانوني للدولة الديمقراطية
يجب أن يستند البناء القانوني للدولة الديمقراطية إلى دستور يتميز
بـ:
- أن يكون دستور دائم وغير مؤقت.
- إن المجلس الدستوري الذي يصوغ بنوده يجب أن يحظى بثقة الشعب، ولا
يكون مجلسا صوريا يخدم رغبات الحكام.
- أن يتم طرح الدستور على استفتاء شعبي عام يعبر فيه المواطن عن
رأيه فيه بدون تقييد، حتى يكتسب الدستور الشرعية السياسية اللازمة
لاحترامه والعمل به.
- باستثناء بعض النصوص التي يكون جمودها في مصلحة الشعب ، ينبغي أن
يكون الدستور قابلا للتعديل متى ما اقتضت مصلحة الشعب ذلك ، كما ينبغي
أن تكون فيه بنود تؤكد على حرية تشكيل وتحرك مؤسسات المجتمع المدني .
أما القواعد الدستورية التي يتضمنها هذا الدستور فيجب أن تحقق الأسس
العامة المشتركة لأي دستور ديمقراطي، والتي هي:
1- احترام رأي الأكثرية ، إذ لا سيادة لفرد أو لقلة على الشعب في
نظام الحكم الديمقراطي ، ولكن ينبغي أن تكون هناك ثقة في اقتراع
الأغلبية ، ’’ فالديمقراطية لا تنسجم مع استعباد الأقليات كما لا تنسجم
مع رفض هذه الأقليات للأغلبية .. ذلك انه ليس للديمقراطية من وجود دون
الاعتراف بحقل سياسي تعبر فيه النزاعات الاجتماعية عن نفسها وتتخذ عبر
اقتراع الأغلبية قرارات يعترف بها المجتمع بمجموعة على إنها شرعية ….
‘‘وهذا الأمر يستدعي من قادة التحول الديمقراطي في العراق إعادة النظر
في قانون إدارة الدولة الانتقالي ، وخاصة الفقرة (ج) من المادة (61)
عند وضعهم للدستور الدائم حتى يكون دستورا ديمقراطيا حقا .
2- عدم الجمع بين السلطات .
3- ضمان الحقوق والحريات العامة .
4- تداول السلطة .
5- سيطرة أحكام القانون، وان يكون الناس سواسية أمامه.
ثانيا: تفصيل دور مؤسسات المجتمع المدني .
أن المجتمع المدني يمثل تلك القوى الاجتماعية العاملة في الوسط
الموجود بين الأسرة والسلطة، كالأحزاب السياسية (خارج السلطة)، منظمات
حقوق الإنسان، المنظمات الدينية، النقابات المهنية، وسائل الإعلام
المستقلة، المنظمات غير الحكومية الأخرى. إن وجود مجتمع مدني صحي وفاعل
يعد ضرورة كبرى في نجاح الديمقراطية ، لأنه بمثل قوة الفرد والمجموعة
في التأثير على قرارات السلطة ، وإجبارها على عدم السير في طريق
الاستبداد ، وتحقيق التوازن بين ممارسات السلطة وحاجات الشعب ، حتى
يمكن القول انه لا وجود للدولة الديمقراطية بدون وجود مجتمعها المدني .
والسمات الرئيسة لمؤسسات المجتمع المدني هي :- الطوعية ،
والاستقلالية ، والتنظيم ، والجماعية ، إضافة إلى البعد الأخلاقي –
السلوكي الذي يحكم علاقات هذه المؤسسات ببعضها واتجاه السلطة.
ثالثا : خلق الثقافة الديمقراطية
إن الديمقراطية ’’ يمكن تدميرها أما من فوق على يد سلطة مستبدة ،
وأما من تحت عن طريق الفوضى والعنف والحرب الأهلية ، وأما انطلاقاً من
ذاتها عــــــــن طريق المراقبة التي تمارسها على السلطة كل من
الاوليغارشيات (أنظمة حكم القلة)، أو الأحزاب التي تقوم بتكديس الوسائل
الاقتصادية أو السياسية لتفرض اختيارها على مواطنين تحولوا إلى ناخبين
ليس إلا''.
ولكي نبعد التحول الديمقراطي العراقي المنشود عن المصير لابد من
وجود الثقافة الديمقراطية ، وليست هذه الثقافة ’’ … نشراً للأفكار
الديمقراطية فقط ، أو مجموعة من برامج التربية والبث التلفزيوني أو
المطبوعات الموجهة إلى الجمهور الواسع إن ثقافة الديمقراطية هي تصور
الكائن البشري الذي يبدي المقاومة الأشد صلابة في وجه أية محاولة للحكم
المطلق حتى المثبت شرعياً عن طريق الانتخابات ، ويبدي في الوقت نفسه
عزيمة على خلق الشروط القانونية للحرية الشخصية والحفاظ عليها ‘‘ .
ولكي توجد هذه الثقافة الديمقراطية، هناك بعض المبادئ الأساسية التي
يجب أن تحظى باهتمام الجميع في العراق وهي :
1-إن الإنسان بغض النظر عن انتماءه العرقي أو الطائفي أو الديني ،
يجب أن يحظى بالاحترام والتقدير والحرية ، وهو ليس أداة تتلاعب بها
السياسيون .
2- إن المواطنة مبدأ أساس في أي دولة ديمقراطية ، لذا يجب اعتمادها
في التعامل مع الإنسان العراقي ، وترك الانتماءات الضيقة التي تقود إلى
اللبننة و المحاصصة ، لذا ينبغي ترك أسلوب المحاصصة الذي تم اعتماده في
العراق بعد 9/4/2003 لان له عواقب خطيرة التحول الديمقراطي في هذا
البلد .
3- أن الاختلاف في القيم بين أبناء الوطن الواحد حقيقة أزلية وسنة
إلهية ينبغي عدم إنكارها، بل لابد قبولها والتحاور على أساسها.
4- يجب التخلي عن الفكر المطلق الذي يعد صاحبه على حق دوماً، والآخر
على باطل دوماً، فمثل هذا الفكر هو الذي يفتح الباب للاستبداد
والمستبدين، وهل المستبد إلا فرعون يقول:{يا أيها الملأ ما علمت لكم من
اله غيري .. } (سورة القصص الآية 38)، والله سبحانه وتعالى يقول { لا
إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي …} ( سورة البقرة الآية 256 ) .
هذه ابرز الملاحظات التي أوضحها ، عسى أن تأخذ اهتمام الجميع من اجل
عراق ديمقراطي لا مكان فيه للمحتلين والمستبدين ولكي لا نكثر الخطاب عن
التحول الديمقراطي في العراق مدة من الزمن ، قد تطول أو تقصر – ثم
نكتشف بعد ذلك إننا أسسنا هذا الخطاب على أسس خاطئة كان يمكن تجاوزها
لو أمعنا النظر بشكل نزيه في متطلبات تحقيق هذا التحول ، إذ يكفي ضياعاً
للجهد والوقت على المهاترات والحوارات السفسطية ، فالعالم يعيش عصر
القفزات التاريخية وان من يبطئ السير فيه ، ويضل القصد سوف يتراجع بشكل
قد لا يسمح باللحاق بركب الأمم والدول المتقدمة والعراق هو أحوج بلدان
العالم إلى استغلال كل ساعة ودقيقة من وقت أبناءه في البناء والعمل
لتعويض ما خسره بسبب السياسات الحمقاء والأفكار المطلقة ضيقة الأفق .
*رئيس القسم الاجتماعي في مركز الفرات للتنمية
والدراسات الستراتيجية
www.Fcdrs.com |