يتجه العراق اليوم، إلى الدولة المركبة من أجزاء، لان هناك شبه اتفاق
سياسي من حيث المبدأ على جعل نظام إدارة الدولة نظاما فدراليا تتقاسم
فيه السلطة المركزية والسلطات المحلة قيادة الدولة الجديد.
والفدرالية العراقية أطروحة بدأها الأكراد وأيدتها القوى السياسية
المتحالفة معها في خارج العراق أيام المعارضة المشتركة، لان الأكراد
العراقيين لما ضمنوا صيغة الحكم الذاتي بالانفصال القسري عن السلطة
المركزية في النظام السابق، وحققوا التقدم الملموس في إدارة المنطقة
الشمالية أرادوا - وهم الطرف الأكثر قوة من حيث الأرض والسلطة والمال-
أن يضمنوا حقوقهم ضمانا دستوريا وعمليا في الحكومة الجديدة، فطرحوا
نظام الإدارة الفدرالية للعراق الجديد.
قوى سياسية أخرى غير الكردية متحالفة معها، ترى أيضا أن استقرار العراق
سياسيا لا يكون إلا بإعطاء المزيد من الصلاحيات للسكان المحليين
ليتمكنوا من إدارة شؤونهم بحرية بعيدا عن الإشراف المباشر للسلطة
المركزية، ويدعم التقسيم الجغرافي والإداري وجهة نظر مؤيدي نظام الحكم
الفدرالي، لان غالبية سكان المنطقة الشمالية ينتمون إلى القومية
الكردية، وأكثرية المنطقة الجنوبية من المسلمين الشيعة، بينما المنطقة
الغربية من السنة، وبغداد تجمع كل القوميات والطوائف الدينية.
ولكن ما يلفت أنظار المراقبين السياسيين المعنيين بالشأن العراقي، في
خصوص القضية الفدرالية شيئيان:
الأول: أن العراقيين غير السياسيين وهم الكثرة العددية الصامتة لم
يتفهموا أطروحة الفدرالية وما ورائها وما بعدها كما يجب، لأنها لم تطرح
طرحا إعلاميا ولا حتى اكاديميا إلا في حدود الندوات المغلقة مما يعطي
انطباعا لدى الذهنية العامة عن مدى صدق الأطروحة ومدى إرادتها.
والثاني: أن السياسيين العراقيين هم أيضا لم يتفقوا –بعد- على معنى
محدد للفدرالية العراقية، ربما الكيانات السياسية التي تتبنى المنهج
الفدرالي قد وضعت اللبنات الأولى للفدرالية التي تزمع تأسيسها في
العراق، فيكون العراق الدولة العربية والخليجية الثانية من بعد دولة
الإمارات العربية المتحدة تلتحق بأكثر من عشرين دولة فدرالية في أوربا
وأمريكا وأفريقيا وبعض الدول الأسيوية، إلا أن الرؤية الواضحة والشفافة
حول الفدرالية العراقية لم يكشف عنها حتى هذه اللحظة.
المعروف أن نظم الدولة المركبة ليس على نوع واحد، فبعدد الدول التي
أخذت بالفدرالية يوجد نظام حكم فدرالي، فالفدرالية مصطلح غير عربي يعني
في العربية اتحاد، والاتحاد لابد أن يكون بين شيئين لا في شيء واحد،
وجزء الشيء الواحد جزء لا يتجزأ منه، لا متحدا مع غيره من الأجزاء،
فلكي يحصل الاتحاد فنحن بحاجة إلى شيئين متشابهين في بعض الخصال
ومختلفين في خصال أخرى، هذا من حيث الفهم اللغوي والعلمي لكلمة الاتحاد.
ولكن المعنى الاصطلاحي والسياسي للفدرالية معنى مختلف عن الأول، لان
الدولة المترامية الأطراف رغم أنها دولة واحدة من حيث الشكل والإجراءات،
ولكنها متعددة ومتنوعة في الموقع الجغرافي والسكان والطبيعة، فكل بقعة
هي ولاية تمتاز عن غيرها من الولايات بالعادات والتقاليد والثروات
والانتماءات، واللغات، وبالتالي لها ما يميزها عن غيرها من الولايات،
ولكن هناك قواسم مشتركة وحاجات أساسية لكل ولاية لا تتحقق إلا بإعلان
عن كيان موحد له سياسيات موحدة، وله قيادة سياسية واحدة، تنوب عن
الولايات في إدارة شؤونها ومصالحها فيحصل الاتحاد والفدرالية السياسية،
كما في الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات المتحدة العربية،
والمملكة المتحدة "بريطانيا" وألمانيا وسويسرا وغيرها من الدول
المتمدنة.
أقام الكرد العراقيين مشروعهم الفدرالي على أساس" قومي" وطالبوا
بإقليمين عراقيين، احدهما عربي يشمل المنطقة الجنوبية والوسطى، والآخر
كردي يشمل المحافظات الشمالية الثلاثة السليمانية ودهوك واربيل، مضافا
إلى كركوك بما تشمل عليه هذه المحافظات من حدود إدارية قديمة تصل إلى
قرى محافظة واسط، لان سكان هذه المحافظات كرد أو كانوا كرد ورحلوا أو
هجروا من مناطق سكانهم الأصلية إلى مناطق أخرى، جراء سياسيات التمييز
التي مارستها الأنظمة السياسة في العراق، أو لاستحالة الحياة في بعض
هذه المناطق، ولكنها بنظر الكرد العراقيين أرض تابعة لإقليم كردستان،
وهم أحق بها من غيرهم. لان هناك مخاوف كردية من الدولة العراقية
الجديدة، وهي مخاوف حقيقية، أوجدتها طبيعة التعامل السياسي للسلطة
العراقية مع الشعب الكردي التي اتسمت في كثير من الأحيان بالطابع
العنصري القومي العربي.
أما العرب العراقيون، إذا استثنينا أنصار الدولة الواحدة نقيض الدولة
المركبة، الذين يرون في الفدرالية مشروع تقسيم خارجي للعراق، فأنهم لا
يتفقون في أكثريتهم مع الأساس الفدرالي الذي ذهب إليه الأكراد، ولكنهم
في الوقت ذاته لا يطرحون بديلا قويا لنوع مقبول من الفدرالية.
المؤمنون بالفدرالية كأفضل نظام حكم ديمقراطي مستقر في العراق، يطرحون
مجموعة أسس للفدرالية العراقية، الأساس الأول هو الأساس القومي بمعنى
وجود إتحادين اثنين في العراق هو الاتحاد الكردي والاتحاد العربي، لان
العراق مؤلف من قوميتين كلاهما يكونان الشعبين العربي والكردي.
ويرد على هذا الأساس أنه يؤمن بالقومية كأداة من أدوات التقسيم للأرض
والوطن، وانه لا توجد قوميتين في العراق، بل هناك القومية التركمانية
والآشورية وغيرهما، وماذا لو كانت بعض المحافظات عبارة عن تجمع عدة
قوميات متآخية مثل كركوك؟ وان الظلم الذي لحق بالأكراد لحق بالعرب
الشيعة وبالقوميات الأخرى، حتى قيل إن صدام ما عدل بشيء كما عدل بتقسيم
ظلمه".
والأساس الثاني هو الأساس الطائفي- القومي، وينطلق هذا الرأي من الظلم
التاريخي الذي لحق بالشيعة والكرد، مضافا إلى الثروة الطبيعية التي
تختزنها الأراضي الجنوبية والشمالية. فأنصار هذا التوجه يرون أن الشعب
العراقي يتكون من قوميتين ومذهبين، فمن حيث القومية يقسم العراق إلى
إقليميين عربي وكردي، ثم تقسم المنطقة العربية بحسب المذهب الديني
للسكان، فوسط وجنوب العراق يقطنها أكثرية شيعية، فيكون لهم إقليم شيعي،
والمنطقة الغربية يقطنها أكثرية سنية، فيكون لهم إقليم سني.
ويؤخذ على رأي تقسيم العراق على أسس قومية وطائفية، أن هناك كرد في
الجنوب والوسط والغرب فماذا نفعل معهم؟ وان هناك سنة في الجنوب، وشيعة
في الوسط والغرب، فما هو مصيرهم؟
والأساس الثالث للفدرالية العراقية يرى أننا لسنا بحاجة إلى تقسيم
العراق لا على أساس طائفي ولا على أساس قومي، لان العراق شعب واحد وبلد
واحد، وسكانه منسجمون مع بعضهم البعض، لان دعاة التقسيم القومي
والطائفي إما أنهم يريدون تقسيم العراق بهذه العناوين، وإما أنهم
يشعرون بالظلم والحيف الذي وقع عليهم، وبالتالي فان شعورهم بالظلم سوف
يزول بضمان حقوق جميع العراقيين بمختلف قومياتهم وطوائفهم، دستوريا
أولا من خلال النص على التساوي في الحقوق والواجبات، وعمليا ثانيا من
خلال النظم اللامركزية التي بموجبها تمنح كل محافظة من محافظات البلد
حرية كبيرة في إدارة شؤون الناس عن طريق قوانين مجالس المحافظات مع
وجود حكومة مركزية واحدة عاصمتها بغداد، بلا عاصمة ثانية أو ثالثة،
تتسم بالطابع القومي اوالطائفي.
هذا النوع من الفدرالية مدعوم من آيات الله العظام، كآية الله العظمى
صادق الشيرازي الذي يرى لزوم "أن تكون الفدرالية إدارية لكل محافظة على
إنفرادها، لأن الفدرالية القومية في هذه المرحلة الحساسة ربّما تهدد
وحدة العراق والتعايش السلمي بين العراقيين، بل قد تتضمن في طياتها
مخاطر حرب داخلية ـ لا سمح الله ـ وإن الفدرالية الإدارية لكل محافظة
بإنفرادها تضمن للأقليات القومية والمذهبية حقوقهم كاملة، لأنهم
سيتولون إدارة شؤون المحافظات التي يشكلون أكثرية فيها عبر الانتخابات
الحرة والنزيهة، فلا فرق من جهة تولي الأقليات شؤون محافظاتهم عبر
الانتخابات بين فدرالية قومية واحدة أو فدرالية إدارية لكل محافظة، سوى
أن الفدرالية القومية ربما تتضمن أخطارا جسيمة لا سمح الله، ومن تلك
الأخطار احتمال نشوب حرب داخلية بين نفس الأقليات، كما حدث ذلك مكرراً
خلال العقد الماضي".
والأساس الرابع للفدرالية في العراق هو الفدرالية الجغرافية، أي يكون
بإمكان كل ثلاثة محافظات أن تقيم إقليم خاص بها، يكون له عاصمة، شريطة
موافقة ثلثي سكان المحافظات الثلاثة، فمثلا تستطيع السليمانية ودهوك
واربيل أن تؤسس إقليم "دُويلة" لها عاصمة مستقلة وحكومة ووزراء
وسياسيات خاصة متفقة في خطوطها العريضة مع العاصمة الفدرالية بغداد،
ولكن تحتفظ الأخيرة بالعلاقات الخارجية ووزارة الدفاع وبعض الوزارات
بحسب الدستور والقانون. وهذا الأمر ينطبق على كل ثلاثة محافظات في
العراق، وليس حكرا على الشمالية فقط كما يتصوره البعض.
هذا الأساس اقره قانون إدارة الدولة المؤقت في المادة الرابعة بقوله:
الـ "نظام في العراق جمهوري اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري
تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية
والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على
أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية، والفصل بين السلطات، وليس على أساس
الأصل أو العراق أو الاثنية أو القومية أو المذهب.
في نظرنا أن اللامركزية الإدارية في إدارة شؤون المحافظات تمثل الحل
الواقعي للمشكلة العراقية بما يحفظ وحدة العراق أولا، ويزيد من صلاحيات
المحافظات ثانيا. لان كل أنواع الفدرالية المطروحة -ما عدا الأساس
الثالث- تشكل مصدر قلق دائم للعراقيين، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف
الداخلية والإقليمية والدولية التي تعصف بالعراق بين الحين والآخر،
فالشعب العراقي بحاجة إلى مزيد من عوامل اللحمة الوطنية، لا إلى مزيد
من الأشباح المخيفة.
وبالتالي، فان سريان منهج الحكم الفدرالي في العراق، لا يكون من اختصاص
قومية دون قومية ولا طائفة دون طائفة، ولا حزب بمعزل عن الكيانات
السياسية، وإنما هو شأن عراقي يخص كل فرد عراقي، لا يجوز النيابة فيه
باعتباره شان مهم من شؤون الحكم، فلكي نعتمد الفدرالية في العراق أو
نعزف عنها إلى الأبد يتعين القيام بما يلي:
1- نشر ثقافة نظام الحكم الفدرالي بحيث يستطيع المواطن العراقي غير
السياسي، أن يتفهم طبيعة الفدرالية وفوائدها أو أضرارها المحتملة.
2- تأكيد الأسس التي تقوم عليها الفدرالية العراقية، ليتمكن المواطنون
من تحديد الأساس المضمون والنافع من بين الأسس المختلفة.
3- توضيح مبادئ تقسيم السلطة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية،
وشؤون المصادر والثروات وكيفية توزيعها.
4- إعلان استفتاء شعبي صريح حول قبول الفدرالية أو رفضها.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات
والبحوث
www.Shrsc.com |