لم تأخذ قضية في العالمين على كر الليالي صداها وواقعة على مر
الدهور مداها، مثل ما هي عليه قضية كربلاء وواقعة الطف الفظيعة، فلا
فجيعة بأمض من تلك الفجيعة، فكلما اخلق الزمان تجدد ذكر الامام الحسين
(ع)، وكلما علت غبرة من رحل الحسين تناطح السحاب ذراها، يراها القاصي
والداني، تتفجر بالدموع عيون وتتفطر بالدماء قلوب.
واذا كانت اعواد المنابر التي صعدها الامام السجاد علي بن الحسين في
القصر الاموي يذكر القوم بنسبه وما حل على وصية ربهم في اهل بيت
النبي(ص) قد قلبت ظهر المجن على الحاكم الاموي يزيد، واحلت ساعات فرحه
كمدا، ومن قبل خطابات زينب (ع) صوت القضية الحسينية في زمن عزّ الرجال،
فان هذه الاعواد التي أرّخت استشهاد سبط النبي الاكرم محمد (ص) بقيت من
يوم عاشوراء طرية يتسلقها الخطباء جيلا بعد جيل يوصلون حبلا من
الذكريات مع صاحب الذكرى مشدود الطرف الآخر بشغاف القلوب واضلاع حبست
على قلوب كسيرة ونفوس أسيرة.
وشبيه الشيء منجذب اليه، فكانت اعواد المنابر منجذبة الى الاضلاع
التي داستها خيول الظالمين، فتكسرت اعواد على مر الزمان وتقطعت اوصال
علت منابرها وتضمخت بالدماء، ومن هذا المجمل تُبان التفاصيل الحاكية عن
حقب تعطرت اجواؤها بشذى دماء الخطباء ومداد العلماء.
الشيخ حمزة الخويلدي ينقلنا في كتابه الموسوم (شهداء المنبر الحسيني
في العراق- ج1) الذي استعرضته مجلة الكلمة الناطقة باسم مؤسسة الامام
الخوئي، ينقلنا الى عالم الخطباء الذين صدحوا بالكلمة الطيبة وأوقفوا
نفوسهم لبيان الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم، فالتحقوا بركب الامام
الحسين شهداء على مذبح الحرية، وفضّل الكاتب ان يؤرخ لشهداء المنبر
الحسيني في العقود الاربعة الاخيرة (1968-2003م) وهي الفترة التي شهد
فيها العراق حملات من التنكيل بالضد من الشعائر الحسينية ومعاداة خطباء
المنبر الحسيني نتج عنها زج الكثير منهم في المعتقلات وتصفيتهم داخل
السجون، والبعض أُبعد خارج العراق والبعض الاخر فرّ بدينه، والبعض منهم
أُعدم وبعضهم قتلوا بالسم او بتقطيع الأوصال.
ولم يكن الشيخ الخويلدي اول من يترجم لخطباء المنبر الحسيني فقد
سبقه الى ذلك الشيخ حيدر المرجاني في (خطباء المنبر الحسيني) في
مجلدين، والسيد داخل السيد حسن في (معجم الخطباء) صدر منه عشرة مجلدات
حتى الان، والشيخ محمد صادق محمد الكرباسي في (معجم خطباء المنبر
الحسيني) صدر منه مجلد واحد حتى الان، والباحث سلمان هادي آل طعمة في
(معجم خطباء كربلاء)، وغيرهم، ولكن ما يميز هذا المعجم انه اختص
بالشهداء من الخطباء، كما اختص من قبل كتاب (شهداء الفضيلة) المطبوع في
العراق العام 1936 للشيخ عبد الحسين الاميني بالشهداء من العلماء.
البهادلي أولهم من الخطباء
واظهر الشيخ الخويلدي جهدا غير قليل في تتبع سيرة شهداء المنبر
الحسيني ولم يكتف بما هو موجود في بطون المعاجم، فقد راح يسافر ويلتقي
هذا وذاك من اجل توثيق معلومة او اضافة اخرى، او تصحيح معلومة مغلوطة
ذكرت في معجم او كتاب حول شخصية يبحث فيها، ولهذا فان كتابه غني
بالمعلومات والسير وخفايا الامور، كما انه اجتهد في تقييم بعض من ذكرهم
من الخطباء، فهو قد عد الشيخ احمد فرج علوان البهادلي (1933-1972م)
الاول في قافلة الشهداء من خطباء المنبر الحسيني في العراق في فترة حكم
النظام السابق، اذ ودع الحياة مظلوما بعد ان ذاق مرارة السجن في (قصر
النهاية) وزرق السم في بدنه، واطلق على الشيخ عبد الزهراء الكعبي
(1919-1974م) صفة ناعية الطف اذ: "لئن كان الاديب الكبير المرحوم السيد
حيدر الحلي ناعية الطف بأدبه وشعره الذي رثى به جده الحسين عليه السلام
وذكر مصائبه ومواقفه فلقد كان خطيبنا الشهيد الشيخ عبد الزهراء الكعبي
ناعية الطف بخطابته ومنبره الشريف، واخلاصه في تلك الخدمة المقدسة"،
وقد اصاب كبد الحقيقة، فرغم مرور نحو ثلاثين عاما على رحيل الكعبي في
يوم ذكرى رحيل السيدة فاطمة الزهراء وهو المولود في يوم ذكرى ميلادها،
فان واقعة الطف التي خلدها بصوته لازالت تسمع اليوم من الاذاعات
والقنوات الفضائية، ويقرأها الخطباء من على المنابر كل عاشوراء.
كميلة أولهن من الخطيبات
ولم يكتف المؤلف بالرجال من الشهداء الخطباء، فقد عرج على الخطيبات
وترجم للشهيدة الملّة كميلة كاندو (1939-1989/1990م) التي اشتهرت
بخطابتها في مدينة السماوة فاستدعيت الى مديرية امن السماوة وسقيت هناك
السم، وانتقلت الى بارئها بعد خمسة ايام من التحقيق.
وما يميز الكتاب ان الباحث تقصى من الخطباء الشهداء ممن غاب في
السجون ذكرهم وطمست مع الايام اثارهم، فاعاد بعضهم من مثاويهم الشاخصة
وبعضهم من المقابر الجماعية، ليخلدهم في ذاكرة الناس وذاكرة التاريخ
عبر صفحات المعجم الصادر عن المركز الثقافي للنشر والتوزيع في بيروت.
ومن ترجم لهم الخويلدي في معجمه: الشيخ باقر العيداني، السيد جابر
ابو الريحة، الشيخ جمعة العبودي، السيد جواد الحلو، الشيخ جواد
الزهيري، الشيخ جواد الهلالي، الشيخ حسن الشيخ فالح الربيعي، الشيخ حسن
الكعبي، الشيخ حسن المسلماوي، الشيخ حسن الهلالي، الشيخ حسن المحمودي،
الملاّ حيدر البشيري، السيد رحيم الحلو، الشيخ رزاق الحسناوي، الشيخ
سالم البغدادي، الشيخ سلام الظالمي، الشيخ سلمان الشافعي، الشهيد صباح
محيل، الشيخ عباس الجراح، السيد عباس الحلو، السيد عباس الشوكي، الشيخ
عباس فاضل التركماني، الشيخ عبد الله طخاخ، السيد عبد الجبار الجابري،
الشيخ عبد الحسين الساعدي، السيد عبد الحسين الخطيب الهنداوي، السيد
عبد الرزاق القاموسي، الشيخ عبد الرزاق الكلابي، الشيخ عبد الرسول
العبادي، الشيخ عبد الرضا الصافي، الشيخ عبد الرضا الحاج علي، الشيخ
عبد الرؤوف دَكسَن، الشيخ عبد الزهراء البيضاني، السيد عبد السجاد
العرباوي، الشيخ عبد العزيز الابراهيمي، الشيخ عبد علي الجوذري، السيد
عبد المطلب المحنّه، الشيخ عدنان الجابري، السيد عز الدين الخطيب،
السيد غني الجزائري، الشيخ فاخر المنصوري، الشيخ فرحان البغدادي، الشيخ
كاظم الفتلاوي، الشيخ محسن مال الله، الشهيد محمد آل فنين السماوي،
الشيخ محمد الرسيتماوي، الشيخ محمد علي الايرواني، والسيد موسى
العميدي.
واهدى الشيخ حسن طراد من علماء لبنان تقريضا للكتاب، كما قرّضه
الشيخ محمد سعيد المنصوري، فيما قدم له الشيخ جعفر الهلالي بكلمة شرح
فيها تاريخ المنبر الحسيني بعامة وفي العراق بخاصة.
* باحث وكاتب عراقي- لندن |