من يقود من: التيار الشعبي العام في البحرين أم قياداته؟! وهل لهذه
القيادة دور حقيقي حر في بناء المجتمع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا
وثقافيا؟! من يقود المرجعيات الدينية في بلادنا: السياسة أم النص
الديني؟!
من هي مرجعياتنا الحقيقية في الشأن الديني والثقافي ، وهل لها
اهتمام في الشأن الوطني ؟! كيف تتعاطى هذه المرجعيات مع حاجتنا
الثقافية والسياسية المحلية ؟!
من له السلطة الدينية في البلاد :المرجع المقلد أم وكيله كاشف
الموضوع ،وما هي حدود صلاحية كل منهما أمام الآخر في الشأن القيادي؟
مثل هذه التساؤلات يجدها مواطن البحرين مهمة جدا إذا ما أراد بوعي
أن يقرأ الأوضاع في البلاد قراءة مستقلة صحيحة بمناسبة إحياء ذكرى
الشهادة العظيمة لأبي الأحرار (عليه السلام) في شهري محرم وصفر. ولكن
الاستفهام الأكثر إثارة بلا منازع هو : “من يقود "التيار الشعبي العام"
في البحرين؟ “ ، وهو استفهام يأتي في المقام الأول وعلى رأس كل
التساؤلات من حيث أثره في مجتمع البحرين في هذين الشهرين ، ومن حيث
انعكاسه على جل الاستفهامات الأخرى التي تدور في خلد المواطن بعد لغط
الإخفاق السياسي الدستوري وانعكاساته على الأوضاع المحلية برمتها.
إن الحقيقة كلها تكمن في "قوة التيار السياسي والاجتماعي" المؤثر
الأول والأكبر في رسم الهوية القيادية في البحرين . ولو اعددنا بتجرد
رسما بيانيا يوضح مسير القيادات واتجاهاتها السياسية والثقافية فسنكتشف
أن الظاهرة الخطيرة البارزة في هذا الرسم ؛ أن بعض قياداتنا الشعبية قد
صعّدت في مستوى شعبيتها في مرحلة تاريخية شهدت فراغا قياديا واضحا،
لكنها انحسرت وهبط نجمها الشعبي في مرحلة أخرى لاحقة ، ثم انقطعت عن
دورها الجماهيري لتشكل في جانب آخر خطا بيانيا جديدا منطلقا من نقطة
الصفر ومختلفا في هويته . ويعزى سبب ذلك إلى تحول هذه القيادات بلا
مقدمات في مرجعيتها الدينية والفكرية وانقلابها على الكثير مما كانت
تؤمن به في الشأن السياسي وبعض مما كانت تعتقد في الشأن العقدي أيضا!.
ولو تتبعنا الحقيقية الكامنة من وراء مثل هذا التحول عند هذه
القيادات والزعامات لوجدنا أن "التيار الشعبي" قد شهد تحولا فجائيا
قادته بعض القنوات الفضائية كـ: " الجزيرة"و" المنار" و"سحر" وغيرها ،إضافة
إلى مساهمات وجوه عدد من علماء الدين الجدد الذين تخرجوا من حوزة "قم
المقدسة" وبحوزتهم بعض الأدوات الفكرية المتجانسة مع فكر "التيار
البحراني الجديد" في ظل تحول سياسي ليبرالي دعا إلى تناغم حركي معارض
مع المستجدات الدولية الضاغطة والداعية إلى تكريس "المبدأ الديمقراطي"
المنسجم مع استقرار العالم على قطب دولي قيادي وحيد بعد سقوط زعامة
موسكو في مقابل واشنطن.
وهذه (الفجائية الجماهيرية) في التحول خلطت أوراق بقية التيارات
وزعاماتها ، فركنت قيادات كانت بارزة إلى زوايا بعض المساجد ، وبرزت
قيادات أخرى كانت مغمورة ولكنها اتبعت تكتيكا جديدا في الآونة الأخيرة
فضلت بموجبه الخضوع إلى "حركة التيار الجديد القوي" ومطالبه وطموحه
السياسي ، إلى جانب رغبتها في تجميد كل اهتماماتها الدينية الثقافية
الاعتيادية الدارجة بعد أن فقدت بريقها المميز بعد التحولات المستجدة
والراهنة في "التيار الكبير" .
ومنذ ذلك الوقت أصبحت القيادات الشعبية المميزة في البلاد هي تلك
التي ترضي الحركة " الضرورة" للتيار العام في ميوله و ولاءآته وطموحه
السياسي بلا أية استقلالية أو فحص نظر، ما ولد لنا عددا هائلا من ممثلي
هذه القيادات لا همّ لها إلا التخفي وراء هذا التيار الجارف الكبير ،
فصبغت ألفاظها بصبغة تلك الولاءات وذلك الطموح بلا أية رعاية لمفهوم
الخصوصية في الفكر والثقافة والسياسية والاجتماع ولا حتى لعاداتنا
وتقاليدنا الجميلة ولا للهجتنا الشعبية الدارجة الرائعة والمتنوعة ،والمتميزة
بقدرتها على التعبير الحقيقي عن هوية
مجتمعنا "الجزيري" "البحري" "الزراعي".
من هنا يصعد بعض خطبائنا البحرانيين المنبر الحسيني في شكل مرشد
أجنبي ، لا هو "منامي" ولا هو" محرقي" ولا هو "ستراوي" ولا هو "قروي
سنابسي أو كراني أو ديهي أو جنوساني ...الخ" بل لا يمثل شيئا من ذلك
أبدا ، إنما يمثل ولاء سياسيا خاصا مقدما على الولاء الظاهر لأهل
البيت(عليهم أفضل الصلاة والسلام) الذي تميز به الخطباء القدامى لهذه
المناطق . فلا تسمع منه إلا تلك المواعظ الخاصة التي لا تجد لها في قلب
مستمعيه آذانا واعية بل تجد أمامها ميولا مسبقا مؤيدا لذات الخطيب
وولائه لا لموعظته وإرشاداته.
ولو بحثت عن الأبيات الحسينية البحرانية التي تمثل صبغة تراثنا
البحراني في إحياء عاشوراء -وما أحسن منها صبغة - فلن تجد بينها إلا
القليل مما علق بذاكرة هذا الخطيب قبل أن يستحكم ولاؤه لآخرين.
ولو بحثت عن الأطوار البحرانية المميزة في أسلوب وطريقة ومنهج عرض
أدب الطف الموروث عن أدبائنا المخلصين - وهي أطوار والحان حكّمت كل
مناطق وبلاد اتباع أهل البيت (عليهم السلام) بقربها الشديد من توصيف
وعرض واقع حال أحداث عاشوراء بلا تكلف وبلا تعقيد في الألفاظ وبعاطفة
جياشة وبوقار عظيم وتعظيم لأهل البيت(عليهم السلام) وقيمهم وبطولاتهم
في يوم عاشوراء- فلن تجد إلا الكثير من الأساليب والطرق الأجنبية عن
تراث البحرين .حتى انك عندما تسمع عن قصص بعض العلماء الكبار في العراق
وإيران ولبنان والكويت والسعودية وعمان وبعض أصحاب المجالس الحسينية في
هذه البلاد وكيف كانوا يتسابقون في البحث عن خطباء البحرين لما يحفظون
من أبيات بحرانية معبرة وأطوار عرض مؤثرة ، أو كيف كانوا يتسابقون في
تعلم الأطوار والطرق البحرانية وحفظ أبياتها ؛ فإنك تظن - أمام واقع
الحال في البحرين- بأن مثل هذه القصص نسج من بعض نسج الخيال أو الكبر
ولا أساس لها من الصحة!. وينسحب هذا الأمر أيضا على قصائد وأطوار مواكب
العزاء .
فقد قتل الإبداع البحراني في إحياء مجالس وشعائر عاشورا حينما صُنع
التيار الشعبي سياسيا بمولدات أجنبية وبطريقة نالت حتى من ثقافته
وتراثه وتقاليده إلى الحد الذي مسخت فيه العقول وجمدت فيه رموز الإبداع
والتطوير والتجديد. ويكفي مثالا واضحا وبارزا : أن أسلوب تطوير ومعالجة
الشعائر الدارجة لم يكن بحرانيا خالصا.وأتذكر بشكل جلي بأن معالجة قضية
الموسيقى المعتمدة في الشعائر حتى الستينات وبدايات السبعينات كانت
بأسلوب مغاير ومختلف تماما عن الطريقة التي اعتمدها البعض في مناهضة
ومحاربة "التطبير" . ففي الأولى كانت الزعامات والمرجعيات البحرانية
متوافقة وواعية لمحيطها ومهيمنة على الشارع والتيار الشعبي ، وكانت
مدركة جدا لموضوع هذه القضية وأبعادها الفكرية والتاريخية والنصية ،
فجاءت المناهضة شرعية ومحكمة وسلسة من غير مشاحنات ولا حتى تدخل شللي
أو فرقي أو تياري.واما في الثانية فقد لعب التيار السائد المسيس
لوحده الدور الأكبر في المناهضة والمحاربة وضعفت أمامه الزعامات
والمرجعيات المحلية في التأثير المستقل أو وضع حد للمشاحنات والمضاربة
بالفتاوى، فجاءت المناهضة من جنس السياسة ومخالفة للكثير من الآراء
الفقهية والوقائع التاريخية الدينية المرجحة لموضوع الموافقة.
ليس عيبا أو شذوذا في الفكر أو المفاهيم الإسلامية أن تكون
مرجعياتنا أو بعض رموزنا على غير ثقافتنا ، بل على العكس من ذلك ،
فربما يكون ذلك باعثا على تلاقح الثقافات والخبرات واندماجهما بين
مشروع مجتمع وعالم إسلامي واحد . ولكن الشعور الذاتي بالنقص والشعور
بالقصور في مكونات الذات والثقافة والخبرات إلى حد التبعية والجمود
والتسليم الخاضع في الفكر ومن ثم تحطيم الثقافة المحلية وخبراتها
وعاداتها وتقاليدها وكل ميراثها الفكري والاجتماعي وإحالتها إلى مخلفات
تستدعي المسح والتقويض تمهيدا لإحلال البديل المتشابه أو المناهض أو
المغاير أو المخالف لأسباب سياسية خالصة ؛ هو مما يعد جهلا بالفكر
والمفاهيم
الإسلامية الصحيحة ،وجهلا بأسس ومقومات قيام وتطور المجتمع ،وجهلا
بدعائم ووحدة النسيج الاجتماعي ،وجهلا بأهمية استقلال القرار القيادي
المرجعي وعلو شأنه أمام حركة التيار الشعبي العام ، وجهلا بضرورة تعبيد
الأرضية لحال زعامي قوي البأس والفكرة لا هشيم فيهما .
فقوة التيار وتغلبه على الزعامة وتقدمه في الموقف على المرجعية فيه
الكثير من المخاطر والمجازفات، كما أن التلون في الرأي والموقف عند
زعاماتنا ومرجعياتنا خضوعا عند رأي وموقف "التيار العام" الذي تصنعه
مولدات إعلامية خارجية أو محلية غير منضبطة أو غير ملتزمة ، فيه الكثير
من المخاطر والمجازفات . وقد يتسبب عن كل ذلك نشوء بعض العادات
والتقاليد غير المستحبة وغير المرغوبة ، أو قد تساهم في بعدنا عما هو
اكثر ضرورة لبناء التيار بناء روحيا وعلميا وثقافيا خالصا وسليما . وقد
يبارك البعض منا المظاهر الجديدة التي برزت في أيام إحياء عاشوراء،
كصناعة اكبر شمعة أو المبالغة في نشر السواد والصور أو غير ذلك – وهذه
مظاهر لا شك في أهميتها وفي تنميتها وفي إشاعتها تأسيا وحزنا على مصاب
أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) – ولكننا في نفس الوقت نشتكي من
نواقص أساس ومهمة وضرورية، تتعلق بالحضور في المآتم والاستفادة من قيم
الإمام الحسين(عليه السلام)
والرفع من شأن عزة المؤمن وثقته بذاته وبدينه أمام إمبراطورية
الإعلام والدعاية المناهضة لأهل البيت(عليه السلام) ولنهضة الحسين (عليه
السلام) وقيمها ، وتتعلق بكفاءة الخطباء وموضوعاتهم ، وتتعلق بالأثر
الثقافي والفكري والعقدي السليم على مريدي هذه الشعائر ، وتتعلق بدمج
الكفاءات العلمية والثقافية في مشاريع إحياء هذه الذكرى العظيمة ،
وتتعلق بوحدة المجتمع وتكاتفه حضاريا ، وتتعلق بمعارفه الدينية ،
وتتعلق بالجانب المؤسسي الديني الذي يتوجب خروجه على مشاكله ومعاناته
وأن ينمو حضاريا حتى تنظم كل الشعائر وتنمى وفق بحوث ودراسات وإمكانيات
مادية تتناسب وقدر هذه المناسبات وعظمتها.
فالمظاهر العامة حرة بين يدي التيار العام ويتفاعل معها بلا حدود ،
ولكن ذوي الخبرة من الزعامات المحلية المستقلة والواعية والمتقدمة على
التيار في مواقفها
واجتهاداتها لها قدرة فائقة على تمييز الموضوعات والمناهج الأساسية
التي يتوجب إحياؤها أو علاجها أو تبنيها في مناسبات أهل البيت(عليهم
السلام) حتى يكون الأمر حضاريا متقدما لا شكليا دعائيا قشريا جامدا . |