كما لم يعتقد بعض المحللين السياسيين بنجاح الانتخابات في العراق،
في ظل الإرهاب من جهة، والاحتلال من جهة أخرى، كذلك لم يتصور آخرون هذا
النجاح إلا بحدود ضيقة، لان المخاوف كانت تداهم الجميع، وهو أمر طبيعي
في بلد مثل العراق يعاني الامرين.
لكن خلاف ما كان يعتقده المحللون، أو فوق ما تصوره بعضهم الآخر،
جاءت الانتخابات العراقية في يوم الثلاثين من كانون الثاني 2005، لتسجل
رقما استثنائيا في ظرف استثنائي، في بلد مستثنى!.
ففي العراق البلد الذي لم يعرف أهله معنى الحياة الديمقراطية طوال
عقود من الزمن، ولم يسبق للعراقيين أن اشتركوا في اختيار ممثليهم في
البرلمان، تم الإعلان عن مشاركة سياسية جماهيرية تفوق نسبة 80% من عدد
المسجلين في المفوضية العليا للانتخابات العراقية، في سابقة تاريخية قل
نظيرها، رغم التخوف الطبيعي الذي كان يعتري المشاركين سواء الناخبين أو
المرشحين أو المراقبين، وهي نسبة لم تشهدها الدول الغربية ذات الأنظمة
الديمقراطية الحرة.
في صباح يوم الثلاثين من عام 2005 هرع الأكثرية من العراقيين إلى
مراكز الاقتراع، بقصد الإدلاء بأصواتهم لانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية
ومجالس محافظات القطر، أول مرة في تاريخ العراق المعاصر. وإذا كان
الحضور المتنوع للناخبين العراقيين على مختلف مستوياتهم الاجتماعية
وأجناسهم وألوانهم وقومياتهم وطوائفهم، جاء خلاف التوقعات الرسمية لدول
الجوار الإقليمي ودول العالم الغربي، فان الملفت للنظر حقا هو أن
العراقيين كان يحث بعضهم الآخر على الاشتراك في الانتخابات والتوجه إلى
مراكز الاقتراع، حتى أضحى الانتخاب بين العراقيين نوع من التعبير عن
الغيرة وحب الوطن والولاء للأرض؛ لذا فأن الذين لم يذهبوا للانتخابات،
أو ذهبوا ولم يسعفهم الحظ في الإدلاء بأصواتهم، كما لو كان مركزهم
الانتخابي في منطقة أخرى يصعب عليهم الانتقال إليها لعدم وفرة وسائل
النقل بين المناطق، تؤنبهم ضمائرهم الحية، و يلومون أنفسهم، وينتابهم
الشعور بالخجل، فيما لو سائلهم أصدقائهم هل ذهبتم لكي تنتخبوا؟ وكان
الجواب من ذهب إلى المركز الانتخابي بان يرفع إصبعه، لان الحبر
الانتخابي ما زال بيده.
الشيء الذي لا يختلف عليه اثنان، أن العراقيين حضروا بأكثريتهم
الناخبة مراكز الاقتراع، ووقفوا هناك طوابير طوابير، وبكل هدوء وتواضع،
وضعوا أصواتهم في صناديق الانتخاب بحرية لم يعرفوها حتى في علاقاتهم
العائلية والاجتماعية، فضلا عن علاقات السياسية، ذهبوا إلى مراكز
الاقتراح بحرية، ووقفوا في الطابور بحرية، وصوتوا بحرية، وعادوا إلى
بيوتهم بحرية، واستشهد بعض الناخبين، بينما جرح آخرون، وبكى من لم يجد
اسمه في لوائح الانتخاب، وولدت امرأة حامل في احد مركز الاقتراع بحرية
أيضا. فهنيئا للعراقيين شجاعتهم وصحوتهم السياسية، وهنيئا لهم مساهمتهم
في الانتخابات لتقرير مصيرهم كحق مشروع لكل شعب حر ومستقل.
نعم، مر يوم 30 من كانون الثاني، بردا وسلاما على العراقيين، ويظل
السؤال المهم، هل سيوفي مرشحو القوائم الانتخابية التي حازت ثقة
الناخبين بوعودهم التي قطعوها على أنفسهم، أمام الناخبين، فيما لو
ترشحوا لعضوية البرلمان العراقي؟
هذا ما سوف تكشفه الأيام والشهور القادمة، وهذا ما يتعين على
الفائزين لمقاعد المجلس الوطني أن يولوه أهمية خاصة في خططهم وبرامجهم
الحكومية، لكي يكونوا عند حسن ظن الناخب العراقي بهم، في تحقيق حاجاته
الأساسية اللازمة لمعيشته اليومية، ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية، وبالتالي تقع على عاتق الفائزين لمقاعد البرلمان والمحافظة
التزامات ومسؤوليات ثقيلة مثل:
- الحفاظ على مكسب الانتخابات عبر كسب ثقة المواطن العراقي بتحقيق
الغايات التي راهن عليها من مشاركته في الانتخابات، لذلك فأن القوائم
المنتخبة مدعوة للالتزام بتحقيق غايات وحاجات المواطن العراقي.
الإسراع بتوفير الحاجات الأساسية للمواطن العراقي ، من غذاء ودواء،
ونفط وغاز وكهرباء، من غير الاحتجاج بعناصر الضعف الحكومي، وتردي
الأوضاع الأمنية أو عدم استقرار البلاد، لان غاية المواطن العراقي من
الاشتراك في العملية الانتخابية، هو تحقيق حاجاته بصعود الأحزاب
والكيانات والأشخاص السياسية التي تكون لها قدرة حقيقية على حل مشكلاته
المعيشية.
بذل قصارى الجهد لاستتباب الأمن والاستقرار في المناطق العراقية
كافة. وعرض صورة واضحة عن نتائج محاربة الإرهاب والإرهابيين، وكشف
أوراق الإرهاب الدولي، لكي يتعرف العراقيون على ملامح هويات أعدائهم،
وتحديد مصادر تمويلهم، وبالتالي فان بقاء الإرهاب في العراق يصول ويجول
من غير رادع يردعه، أو إظهار الضعف في مقابلته، يكون سببا في فقدان ثقة
العراقيين بقدرة ممثليهم الشرعيين.
ثم تأتي من أولويات عمل المرشحين للبرلمان والرئاسة والحكومة، تطهير
أجهزة الدولة من بقايا العناصر غير النزيهة التي تعمل بالضد من إرادة
الشعب العراقي ومصالحه الوطنية. فمما لاشك فيه أن نسبة الفساد الإداري
في دوائر الدولة ومؤسساتها تفوق الاحتمالات المتوقعة، وبالتالي فهي من
المسائل الإدارية الخطيرة على مستقبل الحكومة العراقية الوطنية
المنتخبة، وما لم يشكل جهاز "المراقبة النزيه" في كل دوائر الدولة
لاسيما رؤسائها ومسئوليها، فان الفساد الإداري يكون من اكبر الآفات
الإدارية التي سوف تسقط الحكومة من الداخل وتنخر أجهزتها من حيث لا
تشعر.
ثم لابد لنجاح الحكومة الوطنية المنتخبة أن تعمل على تمتين البنى
الدستورية ومؤسسات المجتمع المدني، وتمكين الأحزاب والكيانات السياسية
من ممارسة دورها في العملية السياسية بحرية تامة، خاصة في مجال نقد
أحزاب السلطة ومراقبة أعمالها، وتوفير الوسائل والإمكانيات اللازمة
لتأخذ دورها الطبيعي في تقويم مسيرة البناء والأعمار. ومن غير فسح
المجال للتعددية السياسية سوف تكون العملية الديمقراطية في العراق
مبتورة وعرجاء.
وأخيرا ينبغي أن تعمل الأحزاب والشخصيات في البرلمان على إنصاف ذوي
الشهداء والمضحين والمتضررين والمهجرين والمهاجرين، وتشكيل مركز
الشهداء ومركز الجرحى ومنحهم كافة الحقوق المترتبة على الأضرار النفسية
والمادية التي لحقت بهم. لان هذه الأسر هي التي ساهمت من خلال تضحياتها
ودمائها في هدم أركان النظام السابق، ولها علينا اليوم حق كبير.
*مركز الإمام
الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com
info@shrsc.com |