الأمن او الانتخابات.. هذا هو الهاجس الذي يقض مضاجع العراقيين،
فالأغلبية السكانية تريد الانتخابات والاقليات المذهبية والقومية لا
تريدها، وشعارها غياب الأمن وحضور الثلوج.
الأكثرية تذهب الى الانتخابات بوصفها السبيل الذي تراه مناسبا
لاقرار الأمن، والاقلية بأنواعها تذهب الى ان التفجيرات والعمليات
المسلحة عامل معطل للانتخابات على مستوى عموم العراق.
ترى ضمن دائرتي الجذب والطرد، أين مستقبل العراق؟ هل الدجاجة اولا
ام البيضة؟
بالأمس القريب قال مسؤول كردي عراقي ان موعد الانتخابات غير مناسب
في شمال العراق لنزول الثلوج، قلت في نفسي وهل يتدثر الناس في فراشهم
اذا نزلت الثلوج؟، وهل تتوقف الحياة اذا افترشت الشوارع بسجاد ابيض؟ لو
افترضنا ان المعارضة البرلمانية في بلد ثلجي مثل الدول الاسكندنافية
تعرضت فيها الحكومة الى حجب ثقة، وفازت المعارضة، ثم دعت الحاجة الى
اجراء انتخابات مبكرة، فهل يتعطل القانون نزولا عند رغبة الطقس ورغم
انف الحق القانوني والشرعي للأكثرية البرلمانية!
ولو قلبنا معادلة الطقس، وكانت الانتخابات في حر آب (أغسطس)، فهل
للاكثرية التي تعيش في مدن الوسط والجنوب، ان تعارض اجراء الانتخابات
فيه، او تأجيل حجب الثقة عن الحكومة بذريعة أن حر آب يذيب المسمار
بالباب، فكيف بالانسان المكون من طين لازب!؟
في العام 2003م، تمت الدعوة الى اجراء انتخابات عامة لاخراج العراق
من الفراغ الحكومي والامني بلحاظ انه لا بد للبلاد والعباد من امير براً
كان أو فاسقا، لكن الاقلية المذهبية عارضته بشدة، وعذرها ان العراق
واقع تحت الاحتلال الاميركي ويستحيل اجراء انتخابات حرة في ظل الاحتلال،
مع ان المنطق كان يقتضي باحراج الاحتلال الاميركي من خلال اجراء
الانتخابات باسرع وقت ممكن بخاصة أن الاحتلال ربط وجوده بقيام سلطة
شعبية واستتباب الأمن.
واليوم فان المسألة الأمنية اصبحت في نظر الاقلية هي الدافع لتعطيل
الانتخابات التي يشرف عليها المجتمع الدولي، مع ان المنطق مرة اخرى
يقتضي باجراء الانتخابات وقيام حكومة منتخبة تدير مصالح البلاد والعباد
وتمهد لخروج القوات المتعددة الجنسيات من العراق ضمن جدول زمني وباشراف
دولي.
في المرة الماضية عندما أصرت الأغلبية على اجراء انتخابات حرة نزيهة
خرج الاخضر الابراهيمي بتقريره المخيب للعراقيين القاضي بتأخيرها لدواع
أمنية، وتأخرت الى اليوم الموعود، ضمن بنود دستور قانون الادارة
العراقية المؤقت، ثم يراد تأخيرها اليوم للدواعي نفسها، مع ان الظروف
الأمنية في العام الماضي كانت افضل عنه في السنة الحالية 2004، فهل
باستطاعة الأقلية دعاة التأخير تقديم الضمانات للأكثرية بان تجري
الانتخابات في موعدها بعد ستة أشهر، وهل باستطاعتهم ضمان توفر الامن
حتى اليوم الموعود، مع اقراري في الوقت نفسه ان لكل شخص او جهة الحق في
التعبير عن رأيه بالأيجاب من اجراء الانتخابات او بالضد؟
بيد ان المنطق مرة اخرى يحكي عن نفسه، فالذين لهم القدرة على زعزعة
الامن في الوقت الحاضر في أقضية وقرى بعينها، ستكون لهم القدرة نفسها
بعد شهر او شهرين او ثلاث او سنة او سنتين على ارتكاب الفعل نفسه، بل
ان قدور دعوات التأجيل الواقفة على اثافي الأمن الهش، تحمل في داخلها
بذور العمل المسلح، فما اسهل على الذي يطبخ العمليات المسلحة ان يزيد
من ملح عملياته مادام يجد من يتذوقها ويستلقي على قفاه من التخمة من
يتناولها!
لقد اصبحت العملية مكشوفة للغاية، فالمجموعات المسلحة باطيافها
المختلفة السلفية والاصولية والحزبية والانتفاعية، اجتمعت على مذود
واحد وقلوبها شتى، في محاولة مستميتة لتقطيع أوصال الأمن ووضع العصي في
عجلة الانتخابات من اجل ارجاع عقارب الزمن الى ما قبل 9/4/2003، وفرض
حكم الاقلية السياسية على الاكثرية، مع انها تعلم علم اليقين ان هذه
العمليات التي تستهدف بالدرجة الاولى الشرطة المحلية والعمال ومؤسسات
الدولة التي بها قوام البلاد والعباد، لا تدفع باتجاه خروج القوات
الاميركية بهذه السهولة، بخاصة مع اعادة انتخاب الرئيس الاميركي جورج
بوش لدورة رئاسية ثانية.
وربما يسأل البعض عن محل المقاومة المشروعة من الاعراب في كل هذه
الاوضاع؟
وهذا التساؤل مشروع كمشروعية المقاومة نفسها، لكن الشرعية تؤخذ من
قادة الدين والمجتمع بأغلبيتهم، ولم يحرم قادة الدين والمجتمع المقاومة،
رغم ما اشيع عنهم جزافا، لكنهم لم يأذنوا بالمقاومة المسلحة حتى يومنا
هذا، فليس من حق اقلية مسلحة فرض رأيها على الاكثرية الساحقة بحجة
المقاومة المسلحة، كيف وان قادة الدين والمجتمع بأغلبيتهم يدعون الى
اجراء الانتخابات والتعجيل بها، كصورة من صور المقاومة السلمية لاقرار
السلطة واخراج القوات المتعددة الجنسيات عبر رمي الحجة في وجهها.
والعمليات المسلحة التي تستهدف بالدرجة الاولى مؤسسات الدولة،
تتعارض مع خط المقاومة السلمية وتتقاطع معها، وتنسجم مع المخطط الخفي
لبعض الجهات العراقية وغير العراقية لاطالة امد بقاء القوات المتعددة
الجنسيات في العراق وتوريطها في الوحل العراقي، من اجل الحصول على
مكاسب غير مشروعة، كانت تتحين الفرص للوثوب عليها، او انها فقدتها ضمن
عملية التغيير القيصرية.
مع ملاحظة جدا مهمة اشرت اليها في العام الماضي في مقالة بعنوان "سياسة
الإغتيالات والتفجيرات ليست وصفة ناجعة لعراق اليوم"، فالمعارضة
العراقية منذ العام 1979 وحتى سقوط بغداد عام 2003، فشلت رغم مئات
العمليات المسلحة والفدائية النوعية والصغيرة التي غاب الاعلام العربي
عن توفير التغطية لها، وسقوط معظم المدن العراقية العام 1991، فشلت في
اسقاط النظام البائد، فلا اعتقد ان هذه العمليات ستعمل على اسقاط
السلطة الحالية، ربما تؤذيها ولكنها غير قادرة على اسقاطها، والعاقل من
اتعظ بتجارب غيره.
مفارقة في غير رجب: قبل ايام اتصلت بالقنصلية العراقية في لندن
مستفسرا عن الوثائق المطلوبة لاستخراج جواز سفر عراقي، فاعلمتني
الموظفة بضرورة تملكي للشهادة الجنسية.
قلت لها: اني املك هوية شخصية قديمة احملها معي منذ ربع قرن.
قالت: انها لا تكفي.
قلت: ان شهادة الجنسية هي بحوزة مديرية امن كربلاء في العهد البائد،
التي تحفظت على كل اوراقي بعد ان دخلت بيتنا واعتقلت امي واخي واختي،
عندما فشلت في القبض عليُ، واستولت على كل متعلقاتي بما فيها كتب
الدراسة.
قالت: قم باستخراج شهادة جنسية جديدة.
قلت: ذهبت الى دائرة الجنسية في كربلاء المقدسة في زيارتي الاخيرة،
فطلبت استبدال الهوية القديمة بجديدة حتى اتمكن من اعادة استخراج شهادة
جنسية جديدة، لان القديمة ذهبت مع ذهاب النظام، فاعتذرت الدائرة عن
تجديد الهوية الشخصية، فعدت الى لندن دون ان اتمكن من استرجاع الحق
الذي سلبه مني النظام البائد.
قالت: آسفة هذه هي التعليمات!
ودعتها بلطف أملا في أن يلطف الله بعباده، وينقلهم من حال الى أحسن
الحال.
وأخير بطل العجب رغم اننا لسنا في رجب، فوثائق دائرة الجنسية في
مدينة كربلاء المقدسة هي بحوزة شخص واحد فقط، تحفظ عليها ووضعها تحت
تصرف حركة الوفاق الوطني التي يرأسها رئيس الوزراء المؤقت الدكتور أياد
علاوي، ورفض وضعها تحت تصرف الدائرة المعنية، ربما تصرف الرجل لدوافع
وطنية والله العالم، لكن تصرفه هذا حرم العبد ومَن على شاكلته من
التمتع بحقه.
*الرأي الآخر للدراسات/لندن
alrayalakhar@hotmail.com |