يُعرف من الإنسان أنه سرعان ما يمل مما عنده وبين يديه من أي شيء
حصّله أو امتلكه، فلا يلبث أن يبحث عن جديد وجديد أبداً. وما ذلك إلا
لإشباع نفسه من توق ولهف إلى الأفضل أو رغبة في الأكمل وعندما لا يجد
ما يروي ظمأه يبحث عن غيره لعله يجد ما يبل فؤاده به وهكذا حتى يصل إلى
مطلوبه ومقصوده من الكمال كل بحسب طاقته وعقله وتفكيره ووعيه، أما
الباحثون عن الكمال المطلق والذين لا يوقفهم المواقف الجيدة بل يتطلعون
إلى الأرقى والأسمى ولا يرضون دون القمة العالية هم القلة القليلة من
الناس ويستحقون إطلاق العظماء عليهم.
والإسلام يعطينا نماذج عن الإنسان الكامل الذي يعشق الكمال المطلق
ولا يروق له إلا كل كامل ويجاهد ويكدح ويكد ويتعب ويتحمل ويبذل نفسه
وماله وولده في سبيله، فتراه هادئاً مطمئناً بذكر حبيبه يتلذذ بمناجاته
ويستعذب خلوته ويجتهد في التخلق بأخلاقه ومراعاة أحكامه وتطبيق شريعته.
وهو نموذج اعترف به أصحاب جميع الديانات والمذاهب وجميع العقلاء
والمفكرين من أي ملة كان لما فيه من مزايا إنسانية وأخلاقية وروحية
وشمائل جسمية عالية بل هو رحمة للعالمين وهو النبي محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وأولاده الأئمة الطاهرون. وزوجته فاطمة
سيدة نساء العالمين (عليها السلام).
والحديث عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) كالحديث عن نور الشمس.
فبأي لفظ يعبر عنه؟ فإن كلمة علي وحدها تكفي لترسيم كل الفضائل
الإنسانية أمام أعيننا. فهو سواء كان أمير المؤمنين وإمام المتقين أو
الخليفة الراشدي الرابع أو إيليا أو طابا أو غيره من أسمائه وصفاته عند
أصحاب الملل والمذاهب فهو إنسان كامل وعظيم لا أحد يستطيع إنكار فضله.
وهو الذي رفد الإنسانية بتركة علم غزير وثقافة إنسانية عالية وأخلاق
رفيعة فهو القائل (عليه السلام) الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو
نظير لك في الخلق) وهو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني).
وهو القائل: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا...
وله المواقف العظيمة والآثار الحميدة في حماية حقوق الإنسان من أي
ملة أو دين كان وحرية الرأي وحقوق المرأة والطفل وتطور الحضارة
الإنسانية، فما نقول في شخص أخفى أعداؤه فضائله حسداً، وأخفى أولياؤه
فضائله خوفاً وحذراً، وظهر فيما بين هذين ما طبقت الشرق والغرب.
وعن الخليل الفراهيدي (احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل دليل
على أنه إمام الكل).
وعن الجاحظ قال: سمعت النظام يقول: (علي بن أبي طالب (عليه السلام)
محنة للمتكلم، إن وفى حقه غلى، وإن بخسه حقّه أساء، والمنزلة الوسطى
دقيقة الوزن، حادة اللسان صعبة الترقي إلا على الحاذق الزكي).
وعن ميخائيل نعيمة: بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب،
فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وحرارة
إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم، وتعبّده للحق إينما تجلى
له الحق، هذه البطولات لا تزال غنياً نعود إليه اليوم وفي كل يوم..).
وعن شبلي شميل (الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة لم
ير لها الشرق ولا الغرب، صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً).
وعن عامر الشعبي قال تكلم أمير المؤمنين (عليه السلام) بتسع كلمات
أرتجلهن ارتجالاً فقأن عيون البلاغة وأيتمن جواهر الحكمة وقطعن جميع
الأنام عن اللحاق بواحدة منهن. ثلاث منها في المناجاة وثلاث منها في
الحكمة وثلاث منها في الأدب. فأما اللاتي في المناجاة فقال: إلهي كفى
بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً أنت كما أحب
فأجعلني كما تحب، وأما اللاتي في الحكمة فقال: قيمة كل أمرء ما يحسنه
وما هلك امرء عرف قدره والمرء مخبوء تحت لسانه، واللاتي في الأدب فقال:
امنن علي من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت
تكن أسيره..)
وعن جبران خليل (مات الإمام علي (عليه السلام) شأن جميع الأنبياء
الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس بلدهم، والى قوم ليس بقومهم، في زمن
ليس بزمنهم).
وهو لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان..
وعن جورج جرداق: في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح
الكلية وجاورها، مات علي شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي
قلبه الشوق إلى ربه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من
جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى).
فموت مثل هذا الرجل تعتبر خسارة فادحة للإنسانية كلها، إذ تفقد
الإنسانية من يرعى حقوقها ويسعى إلى كمالها ويتجه بها إلى العلى ويسرع
خطاها نحو التكامل فمولده ببيت الله تعالى واستشهاده في بيت الله ومكان
عبادته. |