مثلما كثير من الكتابات الحديثة هي عن عصر النهايات، نهاية كل ما هو
إنساني وله معنى، والغريب أننا وفي يأس قاتم وسوداوي نروج لبضاعتهم
ونؤيد نظرتهم بل ونلقن أنفسنا بذلك وأنه انتهى عصر الإنسانية مع أنه من
المفروض نفسياً بعث الأمل ونشر الاطمئنان للحفاظ على هذه البقية
الباقية من عقولنا وعدم استلاب الدهشة والحيرة فكرنا.
وفي معرض الجواب عن أطروحات العنف، إلى أين يذهب بنا العنف الدائر
في منطقتنا وعلى كوكبنا؟ وما أسبابه وكيف نواجهها؟ وما صورة المستقبل
انطلاقاً من اللحظة الحاضرة؟
هناك اتجاهات للجواب ولعل أحدثها: العنف لا يؤدي إلا إلى الدمار
والتدمير، لا يحدثه مكان وسرعان ما ينتشر ليصبح دماراً شاملاً على كل
المستويات.
إن كل ما نراه الآن من حولنا من عنف ودمار وغياب للتعاطف وعدم قبول
الآخرين المختلفين، إنما هو ملامح مرحلة تنتهي وعالم يأفل فنحن على
مشارف عالم جديد ونحن نعبر إليه مرحلة انتقالية، في هذه المرحلة سوف
تنتهي الإمبراطورية الأمريكية التي هي آخر الإمبراطوريات التقليدية
وسوف يأفل العالم القديم كله وصولاً إلى عالم جديد بلا حروب وبلا عواطف
أو علاقات إنسانية كما نعهدها، ولا يعني هذا أنه لن يكون بهذا العالم
صراع أو قيم أو علاقات إنسانية، لا، لكن سيكون هناك منطق جديد للصراع
في العالم الجديد وستكون هناك قيم جديدة وعلاقات جديدة لا يمكن أن
نعرضها بالكامل الآن قياساً على ما نعرفه من قيم أو علاقات إنسانية.
وسيتضح ذلك من خلال معرفة أسباب العنف والدمار اللذين نعاني اليوم
ويلاتهما، فنحن في عصر ما بعد الحرب الباردة يختلف تماماً عن الماضي،
في الماضي كان التاريخ الإنساني قائماً على المحور الرأسي: قطبان لهما
الهيمنة وبقية الدول أو الأمم تابعة لهما ولكن بعد سقوط الاتحاد
السوفيتي وانفراد أمريكا بالعالم لم يكن من قبيل المصادفة أن يظهر على
لسان بوش الأب مصطلح (النظام العالمي الجديد) الذي يعني انفراد دولة
واحدة أو قطب واحد وللمرة الأولى بالعالم وتحوّل جميع الدول والأمم إلى
أمم ودول تابعة.
ولكن سرعان ما ظهرت عوامل موضوعية جديدة على المستوى الاقتصادي
العالمي، أما ما عرف باسم العولمة الاقتصادية، وهذا متغير جديد يقوم
على فكرة الشركات العملاقة المتجاوزة للأمم والجنسيات وتدريجياً لن
يعود هنا دولة واحدة تسيطر على العالم أو دولتان في حالة توازن، فهذا
من سمات العالم القديم، على العكس من ذلك نحن على مشارف العالم الجديد،
الذي تسيطر فيه الشركات الكبرى تماماً بما يؤدي إلى عولمة اقتصادية
حقيقية وكاملة في العالم ككل، وفي هذا النظام الذي يكون أفقياً عكس ما
كان قائماً من نظام رأسي يكون على جميع الأمم والشعوب أن تشارك وأن
تتفاعل مع الشركات الكبرى، وبقدر مشاركتك وفاعليتك يكون دورك ونفوذك أو
تقبع في الهامش، وهذا النظام الاقتصادي لا يجعل الشركاء مرتبطين بوطنهم
الأم أو القيم الإنسانية التي سادت في العالم الجديد، هذا أفق جديد لا
يجب أن نتعامل معه بمفاهيم أو تكتيكات قديمة، فمن القضايا أو المخاطر
التي سوف تطرأ في العالم الجديد اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء
وتراجع أو غياب الرعاية الاجتماعية التي كانت توفرها الدولة التقليدية
وغياب القيم والعلاقات الإنسانية لصالح علاقات المصالح والمنافع، وسبل
التعاطي مع هذا العالم الجديد الذي يراه الكاتب خالياً من الحروب
التقليدية ومن القيم والعلاقات الإنسانية والتقليدية أن تدار قضايانا
بلغة المصالح ولغة الربح والخسارة، فهل نستطيع أن نجعل الشركات الكبيرة
تضطر اضطراراً إلى اعتماد نوع من الضمان الاجتماعي للفقراء والضغط
عليها في هذا الاتجاه؟ ويعبر عنه هذا سؤال إذا خسرت الشركات الكبيرة من
جراء عدم التزامها بتقديم ضمان اجتماعي للعاملين فيها وللكيان
الاجتماعي الذي تعمل فيه وتربح منه سوف تنصاع إلى توفير الضمان
الاجتماعي لأفراد هذا المحيط الذي تعمل فيه ولكن إذا لم يبادر أفراد
هذا المحيط بالمطالبة بحقوقهم وابتكار وسائل جديدة للمطالبة بهذه
الحقوق مؤثرة وفاعلة فلن تستجيب لهم الشركات المهيمنة.
من ناحية أخرى مع سيطرة العولمة الاقتصادية الكاملة وغياب فكرة
الدولة يمكن أن تنتزع حقوق جديدة للأفراد سواء على مستوى المجتمع
المدني أو حقوق الإنسان، ولن يتم ذلك إلا بالانتزاع بمنطق الربح
والخسارة للشركات المهيمنة.
المهم هو تربية ضمير الإنسان وإحساسه بالآخرين فالعاقل منهم يستطيع
بأي طريقة أن ينتزع حقوقه وحقوق إخوانه وأمثاله من المظلومين حتى لو
أودى ذلك بحياته، فعندها يبتكر الإنسان بحكم عقله الذي ينمو ويتأقلم مع
جميع الظروف يستطيع إيجاد الحلول لها بشرط أن يبقى حس الإنسانية فيه
مشتعلاً. |