(عوّد لسانك لين الكلام وبذل السلام يكثر محبوك)
الإمام علي (عليه السلام)
يتميز البشر بالنطق وبه يتوصلون إلى التفاهم ونشر العلم ولا شك أن
الكلام المفيد صفة العاقل إذ لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء
لسانه. والإنسان كائن ذكي لا يدخر أي وسيلة إلا ويستعملها في مجال
علاقاته الإنسانية والاجتماعية مع الآخرين بغية تحقيق أهدافه وطموحاته
وكسب قلوب الآخرين ومودتهم. ومن بين تلك الوسائل يلعب الصوت دوراً
أساسياً في بناء هذه العلاقات، وتقوية روابط المودة، والمقصود به هو
الصوت المعبر عن المعنى الحقيقي والمقصود للألفاظ.. الذي ينبع من القلب
فيمس شغاف قلوب الآخرين، من استهوائهم والنفاذ إلى نفسياتهم وإمكانية
التأثير فيهم. فلا ريب أن من بين الأسباب المهمة في عجز الناس عن حسن
المعاشرة، هذه الحقيقة المجهولة على ما يبدو، وهي أن لهجة الصوت كثيراً
ما تنقل معنى يناقض المعنى الذي نوّد أن تنقله الألفاظ التي نقولها.
والألفاظ في اللغة العربية شأنها شأن معظم اللغات الأخرى – تؤدي
معاني مختلفة بحسب حالة الصوت، من العلو أو الاعتدال، أو الخفوت، بل
الواقع أن الناس يمتعضون مما تنطوي عليه اللهجة من المعنى، أكثر مما
يمتعضون من المدلول الحرفي للألفاظ، فنقول مثلاً (إني لم أعنِ هذا)
ويكدرنا أن يساء فهم ما نقول.
أكثر ما يكون سوء استعمال الصوت في العبارات الظريفة التي تشف عن
الملل والكراهية.. أنظر كيف تراك تقول: (من فضلك) و(أشكرك) و(أهلاً
وسهلاً) أتراك تقولها كأنها ألفاظ تعودها اللسان حين تلقى من تلقى من
الناس. أم تلقيها ألفاظاً نابضة نابعة من القلب، لتحدث المودة بينك
وبين من تلقى من الناس؟
ومن الناس من إذا سمعته يقول لك بغير إخلاص (ما أجمل ذوقك) أو (كيف
حالك) أحسست كأنه يخاطب نكرة لا يعرفك ولا تعرفه، وربما أحسست كأنه
يخاطب جماداً لخلو نظرته من بريق المعرفة وخلوّ صوته من نبرة تدل على
بعض المودة.
وصوت الفتيات الذي تحتفظ به بعضهن إلى الكهولة، وصوت (مشاغل اليوم)
الذي ينقل عمل اليوم إلى مائدة العشاء، أو يجيء بمكتب العمل إلى البيت،
والصوت في حالة الغضب.. فلو ترجمت الألفاظ التي نسمعها من الغاضب لتعرف
المعاني الصحيحة التي يكشف عنها الصوت. فإننا ندرك دون جهد أن عبارة (مع
السلامة) مثلاً يكون معناها في النفس (أذهب إلى غير رجعة) وعبارة (بودي
لو نلتقي كثيراً) فتترجم هكذا (لن أراك إذا وسعني أن أتحاشاك).
وهذا شيء يبعث على الأسف، فإن هذه الكلمات التي نحتاج إليها في كل
يوم، لو استعملت وكان فيها نفحة الإخلاص ومن التعبير عما في نفس قائلها،
لأفاضت على الكآبة التي تتغشى حياة الناس ضياءً مشرقاً ينفي عنها الملل
والسآمة، ولانقلبت الكراهية إلى مودة ومحبة.
وبعد التفطن إلى هذه اللغة المزدوجة ينبغي توخي التدرب على استعمال
اللهجة المنشودة، وليس هذا مما يتيسر تكلفه واتخاذه كالإيماءات، فإن
الإحساس الصادق يكون عميقاً، ولا بد من جهد لإظهاره، على أن هذا الجهد
يستحق التعب، إذا كان يعنينا أن نحتفظ بحسن العلاقات مع من نحبهم.
وخير ما يؤدي به الإخلاص في الشؤون الاجتماعية هو خفض الصوت وتحري
البطء في الكلام، ويجب أن تهمل عبارات المجاملة كل الإهمال، إذا لم تكن
صادرة عن شعور صادق.
إن اللهجة المستوية تساعد على تخفيف التوتر الذي يحدث في حياتنا
اليومية، ويبدو أثره في أصواتنا، فإن هناك أوقاتاً تنقل فيها أصواتنا
سخطنا على شخص إلى شخص آخر بغير عمد، فيحتار أصدقاؤنا ويضطربون، أما
الصوت المستوي فإنه يلطف حالة توترنا نحن، كما يلطف حالة توتر الغير،
وخليق بحس استعمال اللهجة المستوية في رودودك أن يكون لها تأثير سحري
في شخص يتحدث إليك بلهجة عاطفية فيها صياح أو أسى.
ومن الممكن إيجاد صلات حسنة حتى حين تسد الطريق عوائق اللغة،
ولنتذكر أن حسن النية يجد وسيلة للإعراب عنه بغير حاجة إلى فهم مدلول
الألفاظ، وخير تطبيق لهذا.. أطفالنا الصغار تكفيهم ابتسامة وإيماءة
وكلمات مترعة بالحب لإزالة مخاوفهم أو بواعث قلقهم، ولحملهم على الثقة
والاطمئنان وإن كانوا لا يفهمون كلمة مما يقال لهم. |