حين يجوع الإنسان يكفر بالكثير من القيم والثوابت والأخلاق، ومن هذا
الـ" كفر" قتل الآباء أبناءهم خشية الفقر، وهو ما ذكره الكتاب العزيز
الذي أكد من خلال هذه السورة حقيقة كانت واقعة:" وَلاَ تَقْتُلُواْ
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ
قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا ".. ولكن هل كل الذين يثيرون الفوضى
ويقتلون الناس ويفجرون هنا وهناك في المدن العراقية هم من الفقراء..
وهل يصح القول أن كل فاقدي الفرص بحياة أفضل هم من مثيري الفوضى
والقائمين بالأعمال المسلحة؟.. بل هل يمكننا القول أن كل الذين كانوا
يشكون الفاقة قتلوا أبناءهم في عصر ما قبل الإسلام؟..
أسئلة توجهنا بها لمجموعة من الأشخاص.. بعضهم يصطف يوميا في" مساطر"
العمل بانتظار من يأتي ليشتري جهده ليوم واحد مقابل حفنة من الدنانير
قد تقوته وتقوت عياله ليوم أو يومين من الأسبوع..
هموم العوز
قبل أن نتوجه بأسئلتنا لمجموعة من العمال أو بالأحرى أشباه العمال
وأنصاف العاطلين عن العمل وجدنا من الإنصاف أن نضع أنفسنا محل هؤلاء،
فلو تخيل كل منا أنه عاجز عن تلبية حاجات الحياة لأسرته، ولا يقدر على
شراء ما يدخل السرور إلى نفوس أطفاله، أو يجعل حياتهم أفضل، عندئذ كيف
سنشعر ونفكر ونتصرف؟!!.
هذا الافتراض خفف عنا الشعور بالصدمة أمام الكثير من الأجوبة التي
واجهنا بها" العاطلون عن العمل"..
" بشار مسعد" من مواليد ( الثورة) ــ ويقصد انقلاب تموز 1968ــ
حسبما قال متهكما لم ير من الحياة إلا وجهها "الكالح" على حد تعبيره،
فوعيه تشكل وسط جعجعة الشعارات وأناشيد الحرب المملة وبدل أن يتم
تعليمه لتكون فرصه في الحياة أفضل سقط ضحية العسكرة التي مارسها النظام
السابق، ويشرح هذه المرحلة بالقول" ليس ذنبي أنني لم أوفق في حياتي..
في مختلف دول العالم هناك مؤسسات تابعة للدولة تهتم بالأطفال والصبيان
والشباب، بينما في العراق لم نجد أي شيء من هذا.. حين نشأنا أرغمونا
على الانخراط في صفوف" الطلائع" وكانوا يعلموننا الولاء لصدام
ويجبروننا على أداء التمارين العسكرية وقد كسرت يدي في إحدى المرات
بينما كنا نرغم على القفز من أماكن مرتفعة.. لم يعلمنا أحد كيف نحب
المدرسة ولماذا نحبها وماذا يعني المستقبل.. كل الذي اهتمت به حكومة
البعث أنها علمت الناس كيف يصفقون ويهتفون ويرقصون لصدام وهذه هي
النتيجة.. شعب يعاني من فراغ كبير في الثقافة ويعاني من انتشار الجريمة"..
لم يتزوج " بشار" إلى الآن ولم تترك لنا كلماته مجالا لنسأله عن
الأسباب فقد أجاب عن كل الأسئلة الحائرة التي دارت في أذهاننا ونحن
نتابعه متحدثا بمرارة عن مشهد قاس يشترك فيه مع شريحة واسعة من
العراقيين، ومع ذلك أضاف" أسكن مع عائلتي المكونة من سبعة أفراد معظمهم
من البنات في بيت خرب، هو أشبه بالبيت لا يقينا من برد الشتاء ولا من
حر الصيف ومع ذلك ندفع 80 ألف دينار كبدل إيجار.. أنا إذن لا أملك سكنا
ولا مالا وأعيش كما شرحت لك فكيف يمكنني أن أتزوج أو أفكر بالزواج؟!.
*ــ وأمام ظرفك الصعب هذا هل تفكر بالحصول على المال بطرق غير
مشروعة كأن تقتل أو تسرق؟...
ويجيب بشار " لو كنت أرتضي ذلك لنفسي لما خرجت من الفجر كي أقف في
المسطر منتظرا رزق الله الحلال"..
* ــ ولكن هناك من يرى البطالة سببا أساسيا من أسباب الجريمة
والفوضى؟
ــ نعم هي كذلك ولكن ليس كل الناس يفكرون بهذه الطريقة، والمسألة
تعتمد بشكل أساسي على التربية التي نشأ عليها الشخص.. بعضهم لديه من
القيم ما يجعله يفضل الموت جوعا على أن يسرق أو يقتل بدافع الحصول على
المال، وبالعكس بعضهم يحلم بحياة مليئة بالملذات ولا أقول الأساسيات
ويجعل ذلك مبررا للقتل والسرقة..
ــ بينما كان رأي" سامي جواد" مختلفا بعض الشيء، فهو يرى ارتكاب
الجريمة من أجل الحصول على المال دافعا أساسيا لانتشار الجرائم في
الشارع العراقي هذه الأيام ويقول" دعني أكن صريحا معك.. كيف تفكر وأنت
ترى أطفالك يتضورون جوعا، وثيابهم ممزقة ولاتجد مأوى تسكن فيه ؟..
وأمام حاجاتك هذه هناك فرصة مواتية لتصبح من أصحاب الملايين بعملية خطف
أو سرقة، (سيما وأن نسبة نجاح هذه العملية كبيرة وأنت ترى الدولة تنهار
أمامك)"
ــ ولكن هذا التفكير يعد نشازا على التربية العراقية التي تنبذ
العنف وتحض على احترام أموال الغير وترفض السراق والقتلة والمجرمين،
فضلا عن أن شعبنا مسلم ويحترم القيم الإسلامية أو هكذا يفترض، فمن عبث
بفطرتنا إلى هذه الدرجة السيئة؟!!.. ويعقب سامي قائلا " هذا الكلام(
قبل الثورة) ــ ضاحكا ــ لا يخفى عليك العراقيون مروا بظروف طاحنة ..
حروب وجوع، وتمايز سلطوي كريه.. هذه العوامل تزلزل قيم الخير وتنشئ
جيلا ناقما و( كافرا) بكل القيم الخيرة..ولكن دعني أقول لك شيئا، ليس
كل الفقراء والمعوزين لصوص.. من بين هؤلاء من يملك صبر النبي أيوب ولم
يفكر بالتجاوز على حقوق الآخرين.. إنها التربية يا أخي
الاستبداد يعصف بالقيم
ــ إذن أين أوجه القصور في تربيتنا مادام البعض يؤكد على أهميتها في
سلوك الفرد ومساره الاجتماعي؟.. سؤال وجهناه لأستاذ علم الاجتماع "
جمال رزاق" فأجاب قائلا " لا يختلف المجتمع العراقي عن غيره من شعوب
المنطقة... نفس القيم تقريبا تسود في هذه المجتمعات.. نحن شرقيون
محافظون مسلمون عرب.. وضمن هذه المسميات منظومة كبيرة من القيم
والموروث الأخلاقي والسلوكي الذي يلزم الجميع في إطار الخلية
الاجتماعية بالتزامات يدركونها، فمثلا لدينا أن " الجار قبل الدار" وهو
تأكيد على أن الإنسان في هذه البقعة لا يمكن فصله بجدران، لابد يرتبط
بعلاقات وطيدة مع غيره وأولهم جيرانه، بعكس المجتمعات الغربية التي
يعيش الناس فيها عزلة تامة.. الاهتمام بالجار اهتمام بماله وما عليه
وضمن هذا الإطار هناك قيم أخلاقية كبيرة كان يحترمها حتى "الشقاوات"
فهم لا يتعرضون لأهل المحلة أو المنطقة، ويحافظون على بناتها ونسائها..
هناك أيضا شعور بالانتماء يتدرج من الدائرة الأوسع" الوطن" إلى الدوائر
الأقل اتساعا" المدينة، المنطقة، العشيرة، العائلة الشارع" .. هذا
الولاء له" طقوس" خاصة تؤدى باحترام وفق جملة من الالتزامات..
ولكن ماحدث ــ يضيف الأستاذ رزاق ــ هو أن هذه المنظومة تعرضت
للتخريب بسبب السياسات السلطوية، أقول إذن فالجريمة المنتشرة اليوم ليس
بسبب الفقر والعوز المادي وحده، لا ...هناك فقر أخلاقي وعوز قيمي..
مجتمعنا اليوم من الناحية القيمية في وضع مائل، نحتاج لبعض الوقت
والجهد كي نعيد حالة الاتزان لهذا المجتمع"..
ويواصل قائلا" سمع كثير منا خلال الأخبار أن الشرطة العراقية اعتقلت
عصابة مكونة من السراق من أصحاب السوابق الذين كانوا مسجونين قبل
انهيار النظام السابق.. هؤلاء جمعوا ملايين كثيرة من عمليات الاختطاف..
كانوا يختطفون رجال الأعمال والأساتذة ويطالبون بفدية لإطلاق سراحهم ..
دعني أسأل: هل هدف هؤلاء من السرقة هو الحصول على ما يسد الرمق؟..
بالتأكيد لا لو كان هدفهم ينحصر بهذا لاكتفوا بعملية سرقة أو اختطاف
واحدة أو عمليتين، ولكن موت الضمير والو اعز الذاتي وتلاشي غريزة
الشعور بالذنب وفداحة الجرم جعلهم يمتهنون الجريمة.. ومرد ذلك لعوامل
أخلاقية وتربوية قبل أن يكون لعوامل الحاجة والعوز المادي"..
ــ هذه الأفكار أعدنا طرحها على بعض العاطلين عن العمل، أو الذين
ضاقت فرص العمل أمامهم إلى الحد الذي يمكن حسابهم على العاطلين فتباينت
إجاباتهم بين مؤيد ومعارض وبين من كان له رأي آخر..
أسباب عدة والنتيجة واحدة
* ــ " جودة زغير" جلس في زقاق ضيق ينفخ دخان سجائره يوزع عينيه على
خطى المارة أمامه، بينما
ارتدت ملامحه وجه العجز والشعور بالإحباط..
أجاب عن تساؤلاتنا بالقول" يمكن أن أقول لك أنني لن أسرق حتى لو مت من
الجوع.. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الجميع.. هناك من هو على استعداد
لأن يقتل وليس يسرق فقط من أجل الحصول على مال"!..
* ــ ولكن رأي " ج ــ ي ــ هـ" كان اكثر جرأة " نعم .. أنا شاب ومن
حقي أن أتمتع بشيء من البريق الذي أراه من حولي .. من حقي أن ألبس وآكل
وأسكن بشكل جيد.. وحين لايمكنني ذلك فربما أسرق إن وجدتها الطريقة
الوحيدة للحصول على مال"!..
* ــ ويرى " جليل عبد القادر" وهو خريج إعدادية تجاوز الثلاثين
بسنوات، وقد وقف في أحد مساطر العمل حاملا عدته أن الإقدام على الجريمة
بسبب الحاجة للمال لا يتم إلا حين يكون الشخص قد تنازل عن كل قيم الخير
الموجودة في ضميره، فهو لا يظن أن الحاجة وحدها تكفي لارتكاب الجريمة،
بل لا بد أن يسبقها موت لقيم الفضيلة فيه، ويضيف" هناك جرائم تحدث
اليوم ليس من باب الحاجة، وإنما لإشاعة الخوف والرعب وزعزعة الأمن
الاجتماعي، فحين يقدم بعض الأشخاص السيئين على اختطاف طفل عمره عشرة
أعوام ويطالبون بفدية لإطلاق سراحة وبعد أن يقبضوا الفدية يقتلونه، فلا
بد من البحث عن اسباب أخرى.. أو حين يقوم أشخاص بتفجير أنابيب النفط،
وافتعال الأزمات الأمنية في المدن، فهناك أسباب أخرى غير المال تدفعهم
لذلك"..
ــ وفي أحد المقاهي توجهنا لمجموعة أشخاص بينهم كبار سن متسائلين عن
دوافع الجريمة التي يشهدها العراق، وهل الحصول على المال هو دافعها
الأساسي فأجابوا:
* ــ " رياض عايد" يرى أن سوء التربية هو العامل الأساسي" الحروب
خلفت لنا أجيال متمردة بعد أن تشتت شمل مئات الأسر بسبب الحروب"..
* ــ " سعيد جوحي" يحمل السياسية مسؤولية الجريمة" صدقني أخي وأنا
أكبر منك سنا، ما يجري في العراق من فوضى وقتل لم يحصل بسبب الحرمان،
بل بسبب السياسة.. هناك دول تحرك أطراف داخل العراق لإرباك الوضع
وإفشال مشروع أمريكا في المنطقة، وبين العراقيين فئة فقدت امتيازات
التسلط وتريد أن تربك الوضع لتعود من جديد وإلا هل يعقل أن من يطلب
مالا يذبح الناس على القبلة بهذه الطريقة التي نراها؟"..
كل الآراء صحيحة!!
وعدنا للأستاذ "جمال رزاق" .. أستاذ علم الاجتماع فعرضنا عليه آراء
من التقيناهم فقال" كل الآراء تقريبا صحيحة، فهناك اليوم جرائم متعددة
بلحاظ دوافعها.. هناك جريمة للحصول على مال.. وأخرى سياسية.. وهناك
امتهان للجريمة من قبل أشخاص يشعرون أنهم غير قادرين على أداء أي " عمل"
آخر.. وهناك جرائم إرهابية ذات دوافع دينية أو عقائدية.. وحين نشرع في
البحث بأسباب كل هذه الأصناف من الجرائم، حتما سنصل إلى أسباب مشتركة
فيما بينها، فالتربية السيئة أولا هي التي تجعل من الإنسان يكون قاتلا
وإن اختلفت الدوافع، وهناك التثقيف على القتل من قبل رجال دين يبيحون
قتل الآخر بعد تكفيره، وربما هذه من أخطر الجرائم التي تواجه العالم
اليوم"..
ويعرج الأستاذ" جمال رزاق" على بعض الحلول قائلا" لا يمكن للحل أن
يأتي في يوم وليلة، ولكن يبدو لي أولا أن عامل الزمن مهم في هذه القضية،
والعامل الآخر هو عجلة التقدم والبناء وخلق فرص العمل والعلم في أوساط
المجتمع العراقي، أعتقد ــ يضيف الأستاذ رزاق ــ أن على الحكومة
الحالية والحكومة التي سـتأتي فيما بعد، عليها أن تواصل تحريك عجلة
البناء بكل ما تستطيع.. حين يرى الناس أن بلدهم أصبح أفضل وأن الحكومة
تعمل لصالحهم سيقفون إلى جانبها فتنحسر ظاهرة الجريمة"..
كلنا أمل أن يتأكد العراقيون جميعا أن العراق بلدهم وليس لهم بلد
سواه، وأنه صدر حنون قادر على أن يضمهم جميعا بمختلف لغاتهم وقومياتهم
وطوائفهم كما ضمهم على مدى القرون الماضية .. |