
حين قصدت الأهوار للمرة الأولى كانت اسراب الطيور تحلق في أجوائها
النقية على شكل دوائر جميلة تقابلها دوائر أخرى لأطفال قرية "الجلاع"
وهم يومئون باكفهم الصغيرة نحو أسراب الطيور مرددين في محاكاة بريئة"
داير ماداير بغداد، لف الجكاير بغداد".. حملتهم براءتهم على تصور أن
الطيور ترقص معهم..
كان الماء يحيط بـ" الجلاع" والقرى المجاورة من جميع الجهات، حتى أن
الناس يتنقلون من مسكن لآخر بالمشاحيف... امتداد أخضر غير متناه يحجب
الآفاق، وأصوات الطيور المختلفة مع تصافق أكف البردي والقصب، وغناء
الفتيات ورفرفة أثوابهن الملونة بين زرقة الماء والسماء وخضرة البردي
والجولان شكلت بمجموعها سمفونية رائعة للحياة ..
دخلت الأهوار وتركتها وهي تضحك للحياة، ولم أكن لأتصور أن يدا شريرة
ستفتك بكل هذا الجمال في يوم ما.. ليس وحدي من تصور ذلك، بل حين اشيع
أن السلطة تخطط لتجفيف الأهوار قال أحد سكانها مستهزئا" لا صدام، ولا
الأقوى من صدام يتمكن من تجفيفها"!.
وشاءت الأقدار أن نترك الوطن مطاردين نحو الشرق، بعد أن أغلقت كل
المنافذ بوجوهنا.. ولم تمر سوى بضعة أشهر حتى استحالت الأهوار إلى
مستنقعات ضحلة محصورة وضيقة.. كان كل شيء فيها يحتضر.. تجمعت الأسماك
والأحياء الأخرى في الأماكن المنخفضة حتى ماتت..
محنة السكان
منذ مئات السنين، أو ربما آلاف السنين لم يعرف سكان الأهوار حياة أخرى،
بل أن معضمهم لم يخرج من بيئته إلا ماندر.. قوم شيدوا بيوتهم على جزر
عائمة سموها" تهل" قد تمسي في مكان وتصبح في آخر، فهي تعوم على سطح
الماء وتتنقل تبعا لحركة تياراته... عاشوا على صيد الأسماك، وبيع
مشتقات الحليب، وصناعة الحصران من نبات الجولان، وربما امتهن بعضهم
زراعة الشلب في بعض المناطق.. القصب تجارتهم الأولى، فهو حين يشق أديم
الماء مخضرا طريا، علفا لحيواناتهم، وحين يعلو ويتيبس يشيدون منه
بيوتهم، وإذا ما انتهى موسم نموه وانحنى بعضه على بعض كان الأرض" التهل"
التي يبنون عليها مساكن القصب. لذلك كانت محنتهم عصيبة حين جف الهور،
فلم يكتشفوا أرضا بديلة بعد ولم يعتادوا قط على العيش على اليابسة،
لذلك بقي الكثير منهم في قراه، ولم يغادرها.. حاولوا أن يحفروا آبارا
علهم يحصلوا على ماء للشرب، تشبثوا بأمان واهنة سرعان ما افاقوا منها
على أزيز الطائرات المروحية وانفجارات القنابل وهي تعصف بالغرين من
حولهم.. أحرقت السلطة عشرات القرى وقتلت الكثير من السكان، فلم يكن
بوسع من بقي إلا أن يفر إلى اليابسة.. ولم يكن مسموحا لهم السكن في
المكان الذي يريدون بل حددت لهم مناطق سكن في أماكن تقع على امتداد نهر
طارئ سمته السلطة بـ" نهر العز" .. كان أشبه بمحجر كبير تجوبه عجلات
الرفاق من وقت لآخر وهم يرددون عبر مكبرات الصوت أن " من يرغب بالذهاب
إلى إيران فليذهب.. لأن العراق.. عراق صدام حسين، والذي لا يحب صدام
حسين يخرج من العراق"!
وبالفعل تغاضى النظام عن الحدود لفترة من الزمن تشجيعا لسكانها على
الهجرة، فهاجر آلاف المواطنين العراقيين من سكان الأهوار إلى إيران..
الطريق إلى همت
في
الوقت الذي جفت فيه أهوار الحمّار الكبيرة، كان هور الحويزة المشترك
بين العراق وإيران لم يجف بعد الأمر الذي سهل للاجئين من سكان ألأهوار
وسواهم طريقهم نحو إيران، ورغم أن السلطة غضت الطرف بعض الشيء عن
الفارين من جحيمها، إلا أن أحداث مؤسفة وقعت من حين لأخر راح ضحيتها
أطفال ونساء بقيت جثثهم على الساتر الترابي العراقي، أو طافية في مياه
الحويزة..
تستغرق الرحلة نحو إيران عدة إيام بعضها مشيا على الأقدام والبعض الأخر
يكون فيها القارب هو" تاكسي" الرحلة.. عوائل ألقي القبض عليها فضاعت في
أقبية السلطة، وأخرى تركها الأدلاء" المهربون" في مناطق معزولة بعد أن
سلبوها ماتملك فماتت جوعا.. يا إلهي كم هو قاس هذا الإنسان حين يفقد
قيمه وأخلاقه وإنسانيته..
في يوم شتوي بارد من عام 1994 كنا في جولة صحفية في أهوار" شط علي"
فشاءت الأقدار ن نمر بمنطقة معزولة...
معروف أن الأهوار تشكل متاهة كبيرة معقدة لا يمكن لغير البارعين من
الأدلاء الإفلات من تشابكاتها.. في ذلك الصباح البارد وفي تلك المنطقة
المعزلة في الأهوار وجدنا عائلة مؤلفة من أم وثلاثة أطفال قضوا ليلتهم
في ذلك المكان المعزول بلا دثار ولا طعام... سلبهم المهربون وتركوهم
لمصيرهم المجهول ورحلوا دون رحمة.. كانت العائلة تقصد ربها الذي سبقهم
في الهجرة إلى إيران منذ سنوات، ودفعت كل ما تملك من أجل الوصول إليه!!.
على همت!
همت ليست سوى سدة ترابية من مخلفات الحرب العراقية الإيرانية تمتد من
اليابسة الإيرانية وتلتقي بشبكة من السدود في أعماق هور الحويزة.. على
هذه السدة شيد اللاجئون العراقيون بيوت القصب مرة أخرى وعاشوا على
مساعدات هيئات الإغاثة لأشهر قبل أن تأمر الحكومة الإيرانية بإدخالهم
وإسكانهم في مخيمات أعدت على عجل بالتنسيق مع لجان الأمم المتحدة..
في إيران عاش سكان الأهوار محنة أخرى قبل أن يتأقلموا مع بيئتهم
الجديدة، سيما أنهم توزعوا على عدد من مخيمات اللجوء تفصل بينها مسافات
شاسعة، والأمر من ذلك أن بعض تلك المخيمات كان في مدن جبلية باردة كما
هو الحال في" مخيم الشهيد غريبي" الذي شيد في مدينة آراك، ومخيم
سروستان وخوئي وأزنا..
الرحلة الشاقة
منتصف حزيران عام 1996أبلغني رئيس تحرير الصحيفة التي أعمل بها أن علي
الاستعداد للتوجه إلى أهوار العراق للقيام بجولة صحفية ترصد عملية
التجفيف وتواكب حركة قوى المعارضة التي كانت تصارع ظروفا صعبة هناك، من
الحرب والجفاف.. ويبدو أن هذا الأمر جاء منسجما مع رغبتي في مثل هذه
الرحلة، شاءت الصدف أن يرافقني في تلك الرحلة صديق يعمل مصورا
تلفزيونيا يدعى" أبو وعد" قطعت أغلب أصابع يده اليمنى في الانتفاضة عام
1991، كان دمث الخلق صاحب دعابة لايمل ولا يكل..انطلقنا في رحلتنا
الصعبة تلك من أهوار" شط علي" المقابلة لأهوار العمارة العراقية.. لم
نكن وحدنا بل كان هناك أكثر من 24 فردا مسلحين بالغدارات.. تجمعوا من
أماكن شتى واختلفت وجهاتهم وأهدافهم، ولكنهم جميعا ينتمون للمعارضة
العراقية.. علينا أن نقطع مسافات واسعة من الأهوار قبل أن نصل إلى سدة
ترابية تفصلنا عن حدود الوطن.. أقلتنا قوارب سريعة" شختورات" إلى مسافة
قريبة من الساتر الترابي ثم توزعنا في قوارب صغيرة يقودها دليل يدعى"
ريسان" يصغر أصدقاؤه اسمه فينادونه" رويس".. لم تكن المرة الأولى التي
يواجه فيها ريسان أمرا كهذا بل هو دائم التنقل عبر الحدود يودع أشخاصا
ويستقبل آخرين، ولكنه لم يمر بالموقف الذي مررنا به على حد قوله، فعلى
مدى أيام متتالية حاولنا أن نعبر من الساتر دون جدوى، لأن الجند كانوا
يقظين وبالفعل كنا نراهم وهم يروحون جيئة وذهابا ونسمعهم حين يمزحون
بوقاحة ويغنون أو حين يشتم بعضهم بعضا، وربما كانت بعض عباراتهم إشارة
لمن يسمعهم أن العبور مستحيل من هذه المنطقة!.
اضطررنا أن نبيت على جزر عائمة وسط أهوار الحويزة عدة ايام.. كانت ليال
لا تنسى أبدا، فالقوارص والضفادع وحشرات غريبة تنادت من كل مكان لتحتفل
بنا احتفالا قاسيا، لحسن الحظ أنني اصطحبت معي ناموسية، أو "كلة" كما
نسميها في العراق.. حاولت أن أستفيد منها قدر المستطاع، ولكنها جلبت لي
القلق طوال تلك الليلة الغريبة، فيبدو أن بياضها شجع الضفادع وأشياء
أخرى على مداعبتي بسماجة إذ راحت تصعد على أطراف القصب وتلقي بنفسها
علي .. كان بعضها كبيرا حتى خلت أنها سلاحف مجنونة ..
استمرت محاولاتنا في العبور ولم نيأس.. تقدمنا مرات وتراجعنا أخرى، إلى
أن قرر ريسان التوجه عبر أم النعاج إلى هور "شخيتر".. ولكن بعد سبعة
ايام أو ثمانية أنهكتنا صرنا لانقوى على المشي واستنزفت كل قوانا، ولكن
لم يعد أمامنا خيار آخر سوى مواصلة المسير..
أدركت حين وصلنا هناك لماذا تأخر ريسان في استخدام هذا الطريق، فهو
طويل وشاق بشكل لم نكن نتصوره، إذ بعد الساتر الترابي مباشرة تقع سدة
بحيرة واسعة اسمها" المالحة" على ما أظن، استغرق عبورها من الساعة
السابعة مساء وحتى الثانية بعد منتصف الليل... مسافات قطعناها مشيا وسط
مياه قذرة مليئة بقطع الحديد والمواضع العسكرية المهجورة، وربما
بالألغام.. المهم أننا وصلنا إلى منطقة قريبة من ناحية العزير..
لم يكن أبو وعد ولا أنا نعلم عن اسم البحيرة تلك شيئا، لذلك حين كنت
أنتظره على حافتها حيث وصلت قبله لم يخف تهكمه وهو يصيح بـ" ريسان" لو
كنت وصفت لنا هور شخيتر لعدنا قبل ايام" فصحح له ريسان معلومته قائلا"
ستترحم على هذا المكان حين ترى هور شخيتر" بينما قال آخرون ممازحا"
لاتصدق فهور شخيتر فندقا بخمسة نجوم حين تقارنه بهذه البحيرة".
وأي كان الأمر فلم يعد بإمكاننا فعل شيء سوى مواصلة الرحلة الشاقة.. لا
يمكنني طبعا سرد كامل تفاصيلها والأماكن التي مررنا بها .. ولكن على
أية حال مشينا حتى الفجر واجتزنا عدة قرى وصاح بنا أكثر من شخص قبل أن
نصل إلى هور شخيتر، ولم يكن سوى هور جففته السلطة وفقدنا فيه أعصابنا
واستسلم بعضنا لقدره بعد أن نفد ما لدينا من غذاء وماء ولم يعد
بإمكاننا المقاومة في ذلك النهار الحار جدا، ولكن شاءت الأقدار أن نعثر
في جانب من هور شخيتر على طوافة من مخلفات الحرب كانت مملوءة بالماء..
لم يكن نقيا بالطبع ولكنه أبقانا على قيد الحياة..
عجوز المجر!
انطلقنا مجددا بعد أن مالت شمس النهار نحو الأصيل، مشينا ليلة كاملة
بين مواقع الجيش بالقرب من مقر الفيلق الرابع في أبو عجل.. سمعنا
نداءات الحرس ونبحت بنا كلاب المقرات العسكرية السائبة.. ولكن أشد ما
أرهقنا هو طول الطريق، حتى أن أحد أفراد المجموعة وكان سمينا إلى حد ما
لم يتمكن من مواصلة الطريق، فنادى ريسان قائلا
"اقتلوني هنا.. لم يعد بإمكاني مواصلة الطريق" وبينما كان
الدليل يشجعه ويشد من أزره لم يؤجل أبو وعد دعابته قائلا
"لا تخف سنطعنك بالسكين لأن استخدام الرصاص سيعني الموت بالنسبة
لنا"..
ولم تكن عبارات أبو وعد سوى دعابات طبعا، إذ حمل حقيبة ذلك الرجل
لمسافات بعيدة .. ومما يلفت في علاقات أولئك الناس هي المودة والرحمة
والتعاطف فيما بينهم..
وصلنا مع شروق الشمس إلى منطقة لا أعرف لها اسما ولكنها كانت جزءا من
الأهوار المجففة قضينا فيها بعض نهار قبل أن يقصدنا رجل ضرير تقوده
امرأته... ارتجل الرجل هوسة جنوبية أشادت بالمجاهدين ثم أضاف" عرفت من
الرعاة أنكم هنا فقلت لعجوزي أوصليني إليهم".. قال له أحدنا ممازحا"
ألا تخاف من صدام ؟" فأجاب الرجل بكل ثقة" أنا ضرير ولن يفعلوا بي أكثر
من الموت وحبذا لو قتلوني علهم يختصروا العذاب الذي أعيشه"..
ظل الرجل معنا فترة من الوقت طلب فيها بعض الدواء، ثم رحل ولسانه يلهج
بالدعاء..
في الأهوار
بعد مسيرة استمرت أربع ساعات ولجنا أهوار العمارة.. لم أتصور قبل ذلك
المساء أن الأهوار استحالت إلى صحراء قاحلة، فقد تشققت الأرض بشكل مروع
حتى أن بعض الشقوق ابتعلت أقدامنا بينما سرنا عليها خطأ في ذلك المساء
المظلم، وكانت المفاجأة أكبر في صباح اليوم التالي حين وصلنا إلى مقر
للمعارضة الإسلامية سمي باسم المنطقة التي كان فيها وهي منطقة" القبور"
وبالفعل كانت تلك المنطقة عبارة عن قبر كبير.. لا ماء، ولا ظل، ولا أفق،
بل كل ما هناك عبارة عن حفرة كبيرة شيد فيها المعارضون صريفة وربطوا
عندها حمارين فقد أحدهما بصره من شدة العطش، ينقلان عليهما الماء من
نهر العز كل مساء.. جن مسؤل المقر وهو يرى أكثر من 20 فردا قد حلوا
ضيوفا ثقالا في مقر لا يملك المكان ولا الإمكانات كي يتدبر أمر أفراده
الأربعة، فأخذ يستغيث بمقر آخر أقيم في منطقة "الصيكل"..
في المساء وعند منتصف الليل تقريبا حضرت " ساحبة زراعية" للمكان لتقلنا
إلى مقر الصيكل.. هناك كان الوضع أفضل نوعا ما ..
التقينا أنا وزميلي أبو وعد بشخصيات معارضة عديدة، كان أبرزهم السيد
أبو حاتم المحمداوي" أمير الأهوار" الذي أصبح عضوا في مجلس الحكم فيما
بعد، بالإضافة إلى السيد أبو مهدي المهندس قائد فيلق بدر آنذاك، والسيد
أبو أبرار السالم أحد قادة بدر الميدانيين، فضلا عن السيد أبو رياض
ألبنا أحد قادة حزب الدعوة الميدانيين، كما التقينا الدكتور الشهيد أبو
سجاد العكيلي صاحب أبرز العمليات النوعية التي قادتها المعارضة
العراقية في الأهوار منتصف التسعينات من القرن الماضي..
تنقلنا من مقر لآخر، بين العمارة والناصرية والبصرة، وجمعنا مجموع
الأيام التي سرنا فيها على أقدامنا فكانت سبعة ليال ثقيلة تنقلنا فيها
من منطقة لأخرى ومن مقر لأخر بين الأحراش والأنهر والقرى والوحدات
العسكرية..
في الناصرية التقينا السيد حمزة الموسوي في "زورة آل جويبر" التي تصدى
فيها المعارضون بأسلحتهم البسيطة لأشرس هجمات النظام آنذاك، والتقينا
في مقر الجبايش بالسيد جبار الموسوي من حزب الله العراق، قبل أن نتوجه
إلى مقرات المعارضة العراقية في " اصلين" في أهوار البصرة، وكان
بمسؤولية السيد أبو عمران، وهو من الضباط الأبطال السنة الذين رفضوا
صدام بعدما وجدوا فيه من الظلم ما لم يفرق بين العراقيين على مختلف
انتماءاتهم..
كانت رحلة استمرت لأكثر من ثلاثة اشهر وزخرت بالألم والخوف والمفاجآت
مالا يسمح المجال لسرده.. ولكنها أيام تؤشر صلابة العراقي وشموخه في
مواجهة الظلم، فالصعوبات التي واجهها المعارضون في الأهوار المجففة
التي كانت تشتعل من وقت لأخر لم يكن لأحد أن يتحملها، ولكن العراقيين
من معدن خاص يزداد وهجا وصلابة كلما ازدادت المحن واشتدت الأزمات. |