وسط انفجارات في الخارج تهز النوافذ اجتمع ما يقرب من 1300 مندوب
عراقي أول من أمس في مركز المؤتمرات ببغداد في مؤتمر يستمر ثلاثة أيام
ويهدف الى استئناف مسيرة البلاد المتعثرة نحو نظام ديمقراطي علماني.
وفي الوقت نفسه وعلى بعد 85 ميلا الى الجنوب تقريبا كان رجال الميليشيا
الشيعة يقاتلون دفاعا عن رجل الدين مقتدى الصدر الذي يتصور بلدا يدار
على نحو مماثل للنظام الثيوقراطي في الجارة إيران.
وقد وضعت أحداث الأسبوع الحالي رؤيتين متعارضتين لمستقبل العراق في
موقف حاد إزاء بعضهما البعض. والحقيقة ان اجتماع بغداد بدأ بداية شائكة.
وأبلغ رئيس الوزراء المؤقت اياد علاوي المندوبين ان «وجودكم هنا اليوم
هو التحدي الأكبر لقوى الظلام التي تريد أن تمزق هذا البلد. هذه ليست
نهاية الطريق بل الخطوة الأولى على الطريق الى الديمقراطية». والهدف هو
اختيار جمعية أو مجلس وطني من 100 عضو لمراقبة السلطة التنفيذية
المؤقتة لحين إجراء الانتخابات في يناير المقبل.
ولكن عددا قليلا من المراقبين الخارجيين يعتبرون هذا اجتماعا
تمثيليا للشعب العراقي. فهناك قوى أساسية مثل الصدر وجمعية العلماء
المسلمين، وهي تجمع مؤثر لزعماء دينيين سنة، قاطعوا المؤتمر.
وفي الواقع وبعد كلمة علاوي الافتتاحية هدد بعض المشاركين من المجلس
السياسي الشيعي بمغادرة المؤتمر ما لم تبدأ مفاوضات لإنهاء النزاع في
النجف. وفي محاولة لتطويق الوضع تشكلت لجنة من أجل إيجاد حل سلمي
للنزاع.
ولا تهدد المجابهة في النجف المؤتمر فحسب وانما شرعية حكومة علاوي
ايضا وفقا لما يقوله محللون. وبينما لا يعتبر معظم الشيعة العراقيين من
مؤيدي الصدر فان الغضب من حصار مرقد الإمام علي يهدد بدفع معظم
المسلمين العراقيين بعيدا عن دعم الحكومة المؤقتة. وكلما سعت الولايات
المتحدة الى «الضغط» على النجف فان مزيدا من الضغط العسكري يبرز في
أماكن أخرى. فقد اصطدمت قوات الصدر مع القوات العراقية والأميركية في
مدن مثل الحلة والكوت والبصرة والعمارة ومدن أخرى. ويتمثل الخطر في ان
قتل أو اعتقال الصدر وتفكيك «جيش المهدي» التابع له يمكن ان يؤدي الى «لامركزية»
الكثير من أعمال التمرد في مناطق جنوب العراق، ومن الناحية العملية خلق
تمرد مستمر مماثل للتمرد السني وسط العراق.
وابلغ غالب يوسف العيساوي، وهو خطيب ديني من جامع البراق في الفلوجة
الصحافيين قائلا «جلبنا المساعدات لأهالي النجف، وجئنا الى هنا للتعبير
عن الأخوة الحقيقية لأبناء النجف ودعم الناس هنا». وذكر أيضا ان شرطة
الفلوجة وفرت الحماية للمجموعة التي توجهت الى النجف.
وحتى قبل وقف إطلاق النار في النجف نهاية الأسبوع أظهر جيش المهدي
استعدادا أكبر لتغيير الأساليب لتوسيع الحرب عبر المناطق الجنوبية من
البلاد وضد أهداف مدنية عراقية وأميركية داخل بغداد نفسها. وأكد قادة «جيش
المهدي» شنهم هجمات على عدد من مثل تلك الهداف وبينها السفارة
الأميركية ووزارات النفط والمالية والرياضة والشباب وكذلك فندقي
الشيراتون وفلسطين، حيث يعيش متعاقدو الأمن والصحافيون.
وقال احد قادة «جيش المهدي» في مدينة الصدر انه «اذا ما واصل
الأميركيون مهاجمة النجف فاننا سنحول الحياة في بغداد الى جحيم»، مشيرا
الى ان مقاتلي «جيش المهدي» بدأوا باستخدام قذائف المورتر وصواريخ
الكاتيوشا ضد الحكومة العراقية والأهداف المدنية داخل بغداد.
وبعد ساعات من افتتاح المؤتمر في بغداد الأحد الماضي أطلق المتمردون
قذائف المورتر التي أصابت محطة حافلات وأدت الى مصرع شخصين وجرح 17
آخرين.
وبينما قالت الولايات المتحدة وحكومة علاوي أخيرا ان قوات عراقية
مدربة ستقود أي هجوم في النجف، فان اداء وحدات الجيش العراقي كان بائسا
في مكافحة التمرد حتى الآن. وعلى العموم كان الجنود العراقيون معارضين
لمقاتلة عراقيين آخرين. وسيكون استخدام قوات داخلية، والكثير منهم
أنفسهم شيعة، من أجل فرض حصار طويل الأمد، أو حتى اقتحام مرقد الإمام
علي، اختبارا لولاءاتهم».
وكان المفاوض الحكومي موفق الربيعي أكد انهيار المحادثات مع الصدر
يوم السبت الماضي. ولكن المشاركين يقولون ان المفاوضات لم تكن عقيمة
بالكامل. فقد وافقت الحكومة على توفير وسيلة آمنة لمغادرة الصدر مرقد
الإمام علي. وتشتمل مطالب الصدر الأخرى على:
ـ مغادرة القوات الأميركية النجف.
ـ سيطرة السلطات الشيعية (المرجعية) على المراقد المقدسة.
ـ اطلاق سراح مقاتلي «جيش المهدي» المعتقلين ومنح العفو للمؤيدين.
ـ إعادة خدمات الكهرباء والماء الى النجف.
ويتمثل هدف الصدر وميليشياته في اقامة حكومة ثيوقراطية متزمتة في
العراق على غرار ما أقامته الثورة الايرانية التي قادها آية الله
الخميني. وعند حديثه في صحن الإمام علي يوم السبت الماضي قال بلغة
قتالية بعد انهيار المحادثات «أدعو العراقيين في جميع المحافظات الى
المطالبة بالاستقالة الفورية للحكومة العراقية لأنها حكومة أميركية
امبريالية. ونحن نطالب المحتل بمغادرة بلادنا».
واثر استئناف القتال يوم أول من أمس في النجف طلب من الصحافيين
مغادرة المدينة وكانت الشوارع فارغة. وكان بوسع المرء أن يرى الشرطة
والقناصين على سطوح المباني في معظم المنعطفات الرئيسية والدبابات
الأميركية تتحرك في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة قرب مرقد الإمام
علي. وغادر كثير من سكان المدينة القديمة، الذين عادوا اليها خلال وقف
إطلاق النار القصير، أماكنهم مرة أخرى، حيث أشار بعض المقيمين الى أن
الوضع في المدينة القديمة يشهد تدهورا حيث ينعدم الأمن وخدمات الكهرباء
والماء، بينما يطالب الناس جميع الأطراف بايقاف القتال.
ويصف مراسل صحيفة لوس انجلس تايمز الامريكية الوضع في المدينة:
كان الوقت الثالثة صباحا. وكان الضوء الوحيد في تلك المقابر هو ذلك
المنبعث من القبة القائمة فوق ضريح الإمام علي، والتي تشع كشمس أشرقت
في منتصف الليل، ملقية بضيائها على القباب القديمة والنصوص المزخرفة.
وأمر الكابتن وارين كيتاي، وهو يجلس داخل عربته العسكرية من طراز همفي،
أحد الجنود بتغطية المقدمة، حتى لا يكتشف العدو موقعهم على الضوء
الخافت الذي يضيء داخل السيارة.
قبل دقائق فقط وصل كيتاي و85 من الجنود إلى مقابر النجف، التي
يسمونها مدينة الموتى، للحلول محل فصيلة أخرى، في واحدة من أعنف
الجبهات في المواجهة بين القوات الأميركية و«جيش المهدي» التابع للزعيم
الشيعي المتطرف مقتدى الصدر. وقد صار الجنود يكرهون هذا الموقع. وهو
هادئ الآن كعادته دائما في مثل هذه الساعة من الصباح. ويقول الأميركيون
أن جنود «جيش المهدي» ليسوا ممن يبكرون في الصحو. وبعد أقل من ثماني
ساعات من دورية هذه الفصيلة، ستطلق النار على اثنين من جنودها وتشتعل
الحرائق على بعد عدة أمتار من المسجد، ويبدأ هجوم القوات الأميركية على
قوات الصدر.
بمبانيها العالية والمزدحمة، أصبحت المقبرة مكانا مناسبا لقوات
الصدر للاختباء فيه، وبعد أن انقسمت إلى مجموعات صغيرة من أربعة أو
خمسة، صارت تشن هجماتها بمدافع المورتر على القوات الأميركية ثم تختفي
في الزحام أو تنسحب إلى المسجد حيث لا ترغب القوات الأميركية في
متابعتها إلى هناك خوفا من تدمير المسجد وما يمكن أن يترتب على ذلك من
نتائج سياسية خطيرة. قال كيتاي «ليس من الممكن أن تحارب إذا لم يكن
بمقدروك إطلاق النار على بعض الأشياء».
وقتل أربعة جنود أميركيين منذ بداية القتال في هذه المقبرة قبل
أسبوع تقريبا. ويعيش بعض أعضاء «جيش المهدي» داخل المقابر، ويخزنون
أسلحتهم وينامون هناك ويعلقون صور الصدر على حوائط القبور. وقد اضطر
أحد جنود الميليشيا إلى الهرب تاركا وراءه ملابس لم تنشف بعد، وبطانية
ولحما مشويا. وقال كيتاي إن من أشق الأشياء على النفس القتال فوق
القبور «ليس لائقا العبث بقبور الناس. ليس صحيحا أن تمشي فوق القبور.
نحن لا نرغب في وجودنا هنا. ولكن ليس لدينا أي بديل».
أثناء النهار يزول السحر والغموض الذي يضفيه الظلام على المكان،
ويسود الهدوء لبعض الوقت، ويشغل الجنود أنفسهم بالأنس والمحادثات. ولكن
سرعان ما ينفجر المكان ويلعلع الرصاص. كانت النيران كثيفة بصورة خاصة
هذا الصباح لان فصيلة جديدة من القوات الأميركية تحركت لأول مرة
لمهاجمة الجانب الجنوبي من المدينة. ويبدو أن ذلك اضطر قوات «جيش
المهدي» إلى الهرب ناحية الشمال، مما كثف النيران على كتيبة كيتاي. وقد
انفجرت إحدى القذائف على بعد 50 مترا من موقع كيتاي نفسه، وجرح جنديان
كانا داخل الهمفي التي استهدفتها القذيفة. يأمر كيتاي بإخلاء الجنديين
إلى المستشفى. وقال إن أصعب ما يمكن أن يحدث للقائد هو رؤية أحد جنوده
جريحا.
«أنا أعرف شيئا عن كل واحد من هؤلاء الشباب. إنهم أولادي». ويتحدث
في الجهاز: «أحد جنودنا أصيب بقذيفة مورتر. عليكم الآن أن تردوا».
ويبدأ هجوم عنيف من الجنود الأميركيين، وتحلق الطائرات فوق المقبرة
مرسلة قذائف مرعبة. وضرب أحد الصواريخ عددا من جنود «جيش المهدي» كانوا
يستقلون شاحنة، وفجر الشاحنة مرسلا دخانا يمكن رؤيته على بعد أميال.
كما انفجرت قذائف اخرى على بعد 400 أو 500 متر من قبة الإمام علي، وهي
أقرب مسافة وصلها القذف حتى الآن. ويبصر احد الرماة مجموعة من جيش
المهدي تهم بالفرار فيطلق عليهم النار، وتتبعه في ذلك كل المدافع
الموجودة في المقابر، مطاردة مجموعة الميليشيا في انسحابها غير المنتظم.
وبعد دقائق يتعرف أحد القادة على مجموعة مختبئة داخل أحد الأضرحة
فيقصف الضريح لينهار عليها مخلفا سحابة من الدخان الأبيض. وعند المساء
يسلم كيتاي قيادة المنطقة إلى قائد فصيلة أخرى ويذهب بجنوده بعيدا عن
ميدان المعركة. وهكذا يمر يوم آخر من أيام المعارك المستمرة.
المصدر: الصحافة الامريكية،
الشرق الاوسط |