إن الشعور يقتضي التذكر، ومن الصعب تصور حياة نفسية مقصورة على مطلق
الحاضر، أي على إدراك نقطة رياضية تفصل الماضي عن المستقبل، فالشعور
إذن دوام، واتصال، وتركيب وبقاء شيء من الماضي في الحاضر. ولو اقتصرنا
في حياتنا النفسية على الحاضر المطلق، لكان التفكير غير ممكن، لأن
الذاكرة هي التي تصل الحاضر بالماضي، وهي بالنسبة إلى العقل كالعادة
بالنسبة إلى الجسد. وأبسط صورة للتذكر، الذاكرة الأولية وهي عبارة عن
بقاء الأحوال الجديدة في حاضر النفس مدة من الزمان. أما الذاكرة
الحقيقية فهي القدرة على إحياء حالة شعورية مضت وانقضت، مع العلم
والتحقق أنها جزء من حياتنا الماضية.
وقيمة الذاكرة تتحدد بأثرها العميق في الحياة النفسية، حتى لقد قال
(أوغسطينوس): النفس هي التذكر.
فالإدراك لا يقوم على تذكر الصور السابقة، كما أن الشخصية لا تقوم
إلا على تذكر الماضي، فلولا الذاكرة لما تكونت الشخصية، ولا تم الإدراك،
ولا اكتسبت العادات، ولا أمكن التخيل والحكم والاستدلال، وكلما كانت
الذاكرة أقوى كان العقل أوسع وأغنى. والذين يمارسون الأعمال العقلية
محتاجون إلى الذاكرة أكثر من غيرهم، لأن الذاكرة تعينهم على حفظ
المعلومات والمعارف وتسهل لهم الفهم.
والحياة الانفعالية نفسها لا تقوم إلا على التذكر، فلولا الذاكرة
لجفت العواطف، ولولا الالتفات إلى الماضي لغاب عن الإنسان وجه التأسي،
فالذاكرة تحيي العواطف، وتوقظ الميول، وتجدد الانفعالات.
ولولا الذاكرة لضاقت أيضاً حياتنا الفاعلة، فتجاربنا الماضية توجه
أفعالنا الحاضرة والآتية والتنبؤ بالمستقبل إنما هو ذاكرة معكوسة كما
قيل. أضف إلى ذلك أن الإرادة تستلزم التذكر، كما أن الأخلاق نفسها
تستلزم الاعتماد على التجارب الماضية.
ولكن بالمقابل فإن الذاكرة لو كانت قوة مطلقة ومتماسكة تماماً لتعذر
عليها النسيان، ولكانت غير صالحة للتفكير، لأنها إذا أحضرت دقائق
الأمور، واستعادت جميع أجزائها، شغلت بهذه الأجزاء عن ارتباط المعاني
بعضها ببعض، وهذا مخالف لشروط التفكير، لأن التفكير يوجب الاختصار –
والاقتصار على الأهم والبسيط، والإعراض عن اللواحق، ولعل النسيان من
محاسن الذاكرة، إذ لو أضطر الإنسان إلى حفظ كل شيء لتعبت حويصلاته
الدماغية، ونفذت قوة استيعابها، ولأصبح غير قادر على اكتساب الأمور
الدينية، فيجب أن يزول عن الذهن شيء ويبقى فيه شيء، ولولا النسيان لبقي
الحزن في النفس على ما كان عليه وقت الفراق، ولما صبر الإنسان على ما
نابه، إذن خير للذاكرة أن تكون ملكة نساءة.
وعلى هذه التحليلات النفسية ربما تقوم بعض الدراسات على أساليب
التعليم في مدارس العالم ومنها اعتماد الدول المتقدمة أسلوب التعليم
المعتمد على الفهم أكثر من الحفظ والتكرار المعتمد على الذاكرة الكلية.
وهكذا نرى نتائجها تصل إلى الدول النامية والإسلامية فإذا بهم
يعتمدون هذه الطريقة في المدارس وذلك بالتركيز على الفهم أكثر وترك
الأسلوب القديم المعتمد على الذاكرة فقط مما أتيح للفكر مجال أكبر.
ولكن هل تجدي نفعاً هذه الطريقة؟ أم هناك دراسات ذات منابع سياسية
ومصلحية تؤدلج الطلاب على هذه الطريقة من التعلم السريع ونسيان الماضي
حسب المرتكز القائل: لا بد أن يزول شيء عن الذهن ويبقى فيه شيء.
وبذلك تدريجياً حتى يتم بوقت قصير نسيان الماضي كلياً وكذلك ثقافاته
وتقاليده وأديانه والتدين بالدين الجديد والنظام العالمي الجديد. |