يتحسر الجيل المعاصر لهذه المرحلة الاجتماعية العالمية التي تبدو
غير واضحة المعالم لما سيكون عليه مستقبله فيها إذ يزداد في النفوس
التخيل أن الشخصية اللانموذجية هي التي سيكون لها الباع في تحديد خطوط
ذلك المستقبل.
ونظرة على الوقائع الاجتماعية ولنأخذ المجتمع العربي على وجه الخصوص
والمجتمعات الإسلامية على وجه العموم حيث يلاحظ أن (الشخصية القدوة)
ممكن أن تُلمس بين شرائح وطبقات الناس العاديين وإن كان تكاملها لكل
الظروف مسألة نسبياً إلا أن ما يحز في النفس أن كسب المنزلة عند (الأفراد
اللانموذجيين) هي الظاهرة ولعل هذا الاستثناء عن القاعدة يزيد الواقع
الاجتماعي ضبابية بحيث أن أي فرد اليوم (هو نموذجي) وأي عائلة و(هي
نموذجية) لن يستطيعا الإجهار بأنهما كذلك وإن كان في ذلك شيء من
التواضع البعيد عن التبجح إلا أن اللانموذجيين الذين صعدوا على أكتاف
الآخرين وأصبحوا بين ليلة وضحاها من وجهاء السياسة والاجتماع والأدب
والثقافة فيه دلالة على حجم المأساة التي طالت الأخلاقيين والثابتين
على خط الإيمان العدل.
والشخصية الاجتماعية اللانموذجية الآن التي تلمس في الدوائر الرسمية
كـ(المرتشون المسكوت عنهم) و(الثرثارون في الأماكن العامة التي تتطلب
هدوءاً) والمتطفلون بفظاظة على شؤون الغير كلها إرهاصات تستهدف روح
الصلاح والإصلاح ولهذا يلاحظ أن الفارق بين مادية التقدم العلمي
التكنيكي تسير بصورة أسرع في التأثير أمام روحانية الجانب الحيائي
ولهذا فلن يستطيع أحد النكران أن تدل المحاولات لتغير الواقع الاجتماعي
في أي بلد عربي أو إسلامي يكاد توّلد شعوراً من الإحباط.
الجميع من كلاسيكيي الثقافة يلوحون برأيهم (الحتمية التاريخية) التي
لا يعملون لحملها وهذا ما يفرغ آرائهم من أي مصداقية فهؤلاء يعانون من
الشعور الداخلي من هزيمتهم أمام أحداث التاريخ وهذا الشعور لا يبدو
عندهم وقتي فالمناخات الاجتماعية التي يعيشون فيها يسودها جو مشحون من
انتظار أن يعمل الآخرون شيئاً لصالحهم قبل أن.. يستعدوا هم لعمل شيء
لصالح هؤلاء ومثل هذا الترفع عن رسالة الحياة تزيد من انتشار مساحة
ظاهرة الاتكال على الغير الذي بدوره متيقظ بمعرفة الآخرين قبل أن
يعبروا عن مكامن تلك الاتكالية في نفوسهم.
والشخصية الاجتماعية السلبية تقدم أكثر من طبيعة (اللانموذجي)
وهؤلاء اللانموذجيين يعانون من الشعور بكراهية الآخرين لهم ولا ينتظروا
رداً جدلياً من أحد فهم يعرفون كيف يهاجموا الناس النموذجيين عبر توجيه
النقد الذي يصل إلى درجة الغيبة والنميمة، ولهذا فإن ماسحة سلة
اللانموذجيين أضحت بلا حدود فهؤلاء مترفون حقاً فيما يقولوه وما يصدروه
من أحكام.
ولأن الإسراف في الكلام هو سمة هذا الزمن الشراني الذي يمنع على
المتألم أن يتأوه أو يصيح من سكرة ألمه فكل ذلك ينجمع في نقطة ابتذال
يشاكس النموذجية السوية عند الإنسان التي أصبحت نادرة جداً في سوق
الحياة ولعل مثل هذا الاستعداد الراكد على أن يكون التقدم بالانتقال من
النقيض الأقل إلى النقيض الأكثر فكل هذا ساهم بزرع اليأس عند الكثيرين
وآمات في العقول طموحها المشروع ولعل من أسوأ ما يقدمه اللانموذج في
وصف رجال الدين بأنهم أشخاص يعدوا الآن من التاريخ وبذا فهذه المصالحة
مع روح الجهل مستكثر على المتابعين حتى استقراؤهم للتاريخ.
إن أول ضعف يمكن لمسه في الشخصية الاجتماعية اللانموذجية هو استثقال
(الحوار) مع الآخرين ولهذا يلاحظ أن انقساماً حاداً قد غدا ظاهراً في
كل صفوف التجمعات البشرية المنظمة على مبادئ أخلاقية أو اجتماعية أو
سياسية فالإسلام الحقيقي رغم رسوخه بصفحته الناصعة بكل ضمير حي إلا أنه
لدى تجمعات معينة إسلام شكلي لا يعرف فيه الإسلام سوى اسمه وهذه
الإشكالية تولد في النفوس إحساساً بأن الخطر أصبح يحيط الدين الإسلامي
بأكثر من جانب وفي الأوقات العصيبة التي يعيشها المسلمون سواء في أرضهم
العربية أو أراضيهم الإسلامية قد جعلهم على هامش العلاقات الاجتماعية
الدولية ومن نكايات هذه الحالة أن كل مسلمي العالم اليوم متهمون
بـ(الإرهاب) لأن من قام ببعض العمليات الإرهابية يدعون مسلمين والغرب
الذي يقود حملة مكافحة (الإرهاب الإسلامي) يعفي نفسه من تهمة الإرهاب
الذي كان موضع إدانة من قبل عدد من المستشرقين الغربيين ذاتهم فقد عرف
العرب والمسلمون والشرقيون الإرهاب القادم من الغرب في الحروب الصليبية
فإن الهجوم من قبل أي جهة إسلامية واعية ومخلصة لم يتم ضد الدين
المسيحي لأن هناك فرق بين ما هو مسيحي مسالم وبين مدعي المسيحية وهو
متآمر.
إن مرحلة انفتاح العالم التي تشهدها البشرية جمعاء بهذا العصر تحتفي
بكل شيء أصيل وتمنح خصوصية فائقة لمن يريد تسييد شخصية (الفرد النموذجي)
لا (الفرد اللانموذجي) على الرغم من كون (الملل الروحي) بكل مجتمع قد
أمسى أحد تكويناته الضاغطة. |