إن من عجيب صنع الله تعالى في الإنسان والأغلى في رصيده الإنساني
والذي هو بمثابة الورقة الرابحة في معاملات الحياة – هو عقله الذي
يستطيع به بواسطة هذه التلافيف الدماغية الواعية التي تسير الحياة في
هذا الإنسان العاقل والتمييز بين مختلف الأشياء وإدراك التباين بينها
أن يبدع في مجالات الحياة ويغير فيها ويكسر الجمود القاتل.
ولكن هناك تساؤلات هل هذا العقل المبدع يموت أو يهرم ويزول نشاطها
بمرور الايام وكبر عمر الإنسان؟
إن الذي يستكشف من الروايات والأحاديث أن العقل البشري ينمو بنمو
الإنسان ويتطور بتطور الإنسان، فعن الإمام علي (عليه السلام) العقل
غريزة تزيد بالعلم والتجارب).
ولو كان زيادة العمر والكبر سبباً في ضعف العقل لما قال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): (رأي الشيخ أحب إلي من جلد الغلام..)
بل تجارب العلماء ودراساتهم الوبئية أيضاً على أن الدماغ والعقل
قادران على الاحتفاظ بقدر مدهش من المرونة والقدرة ولو بلغ من العمر
أقصى طاقاته.
إذن ما هو الخلل الذي يصيب الدماغ عندما يهرم الإنسان؟
لقد ظل العلماء يعتقدون إلى أمد قريب أن دماغ الإنسان يخسر كثيراً
من خلاياه مع التقدم في السن، وهي خسارة كان يظن ألا سبيل إلى تعويضها
إذا فقدت، غير أن الأدلة العلمية الجديدة تضفي مزيداً من مبررات
التفاؤل على وجهة النظر هذه، وقد قام الدكتور روبرت تيري، أستاذ العلوم
العصبية وعلم الأمراض بجامعة كاليفورنيا، بدراسة ظاهرة أطلق عليها اسم
ظاهرة (الدماغ المتقلص) فتوصل إلى قرار مفاده: أنه لا يحدث تداع يعتد
به في مجموع كثافة العصبون – الخلايا العصبية – في ثلاث مناطق هامة من
الدماغ.
يقول تيري: إن عدد العصبونات الكبرى في هذه المناطق الثلاث يطرأ
عليه بعض النقص بسبب التقدم في السن، غير أن هذه الخسارة يعوضها حدوث
زيادة في عدد العصبونات الصغرى، فالأولى (العصبونات الكبرى) لا تهلك بل
يتقلص حجمها، ومع أن العصبونات الصغرى لا تجيد أداء العصبونات الكبرى
إلا أن الأمل قائم بأن يصبح بالإمكان إنماؤها أو إبقاؤها بحيث تستطيع
استعادة الوظيفة الطبيعية للدماغ.
لكن العلم يخطو خطوات مذهلة على طريق الاكتشافات الطبية الباهرة،
ولعله في وقت قريب يمكن إيجاد علاج معظم آفات الدماغ ومنها المرتبطة
بشيخوخة الذهن، ومع هذا التقدم ومع هذه الاكتشافات فإن العلماء يؤكدون
أن المفتاح الذي يهيء للإنسان أن يظل محتفظاً بقوته الذهنية يكمن في
المحافظة على الصحة الجسدية.
وفي دراسة أجريت مؤخراً على (200) رجل وامرأة، تبين أن الرجال
والنساء الذين لم يحصلوا في شبابهم إلا القليل من العلم والثقافة، هم
أقرب من سواهم إلى الإصابة بخلل ذهني كالخرف، إذا ما قيسوا بالأشخاص
المتعلمين.
ويقول العلماء: إن المحافظة على النشاط الذهني عند التقدم في العمر،
كفيلة ليس فقط بالاحتفاظ بصحة الدماغ، بل وبإبقائه أقدر على الإبداع
والإنتاج.
وعن الإمام علي عليه السلام: (أعون الاشياء على تزكية العقل التعليم)
إذن ليست الشيخوخة سبباً للضعف الذهني، إذا لم يكن هناك وهن في
الجسم بحيث يؤدي إلى ذلك أو كانت هناك أسباب أخرى كشرب الخمر ومصاحبة
الحمقى (فعن الإمام علي عليه السلام: (من ترك الاستماع عن ذوي العقول
مات عقله) وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) (من سلط ثلاثاً على ثلاث
فكأنما أعان هواه على هدم عقله: (من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا
طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان
هواه على هدم عقله ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه). |