عن الباري عز وجل في كتابه الكريم: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا
تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله، إن الله شديد العقاب).
لا شك أن المجتمعات البشرية بحاجة ماسة إلى العلاقات الاجتماعية
وتماسكها وقوتها، إذ أن العلاقات تلعب دوراً كبيراً في ظهور ونمو
الكثير من الصفات الإنسانية الخلاقة، وتساهم في تجذير السلوك الفطري في
الإنسان، وتعمق فيه الخصال الحميدة، وبعمق الصفات الإنسانية فإنها توسع
أفق التفكير الاجتماعي والأخلاقي، وتزيل الكثير من الغبار عن الرؤية
السليمة للقضايا الاجتماعية والأخلاقية، وبعمق الصفات يسمو عند الإنسان
التقييم إلى درجة يجعل من القضايا الاجتماعية مثلاً علياً، وقيماً
رفيعة وبهذا التقييم العالي، فإن الإنسان لا يرغب عن الجانب الاجتماعي
والأخلاقي بل يتمسك به.
وتحتل القيمة مكانتها لدى الفرد حسب حاجته إليها واهتمامه بها،
فيعطي الفرد أهمية ضئيلة للقيمة، إذا لم يكن قد وصل بعد إلى المستوى أو
الدرجة التي يعرف من خلالها مدى مناسبة هذه القيمة وأهميتها بالنسبة
إليه.
وحدد بعض العلماء أن القيم ترتقي وتمضي في ارتقائها على متصل
الوسيلية الغائية في ضوء مستويات ثلاثة: (الأولى) حيث الأهداف المباشرة
بأشياء واقعية (كالغذاء والراحة والتحصيل) ثم يلي ذلك الأهداف غير
المباشرة، وهي غير اجتماعية، وتتصل بالمستقبل (كالحصول على وظيفة أو
السعي نحو الشهرة) ثم المستوى الثالث، ويتعلق بالأهداف الغائية، حيث
التعامل مع القيم الغائية مباشرة (كالحرية والجمال) فارتقاء القيم
واستيعابها يمرّ بمراحل مختلفة يحددها العلماء في ثلاثة مستويات: (المستوى
الأول) مستوى التقبل ويتضمن الاعتقاد في أهمية قيمة معينة وهو أدنى
درجات اليقين.
المستوى الثاني: مستوى التفضيل ويشير إلى تفضيل الفرد لقيم معينة
وإعطائها أهمية.
المستوى الثالث: مستوى الالتزام وهو أعلى درجات اليقين، حيث الشعور
بأن الخروج عن قيمة معينة سوف يخالف المعايير السائدة.
فمع نمو الفرد وتقدمه في العمر تتغير المعايير والقواعد التي تحكم
تصرفاته وسلوكياته وأحكامه على ما هو صواب أو خطأ، وما هو أخلاقي أو
غير أخلاقي ويخالف المعايير السائدة في المجتمع.
والنظرة السليمة للأشياء تعطي القيمة الحقيقية له، وكلما تعمقت
النظرة ازدادت سلامة ونقاوة، وتنزاح عنها الكثير من الشوائب والشبهات
والشكوك فلا بد للإنسان أن يمد بصره ويعمق رؤيته حتى يتسنى له الخلاص
من الشبهات والشكوك، فإن النظرة السطحية والرؤية الشكلية لا تعطي
القيمة فضلاً عن أنها لا تزيل الشبهات، وبالتالي فإن التفكير يبقى
محصوراً في إطار ضيق، وفي دائرة محدودة.
وعليه من الأشياء التي تساعد الإنسان في تأصيل وتعميق تفكيره،
وواقعية ملاحظته هو مشاركة الآخرين في عقولهم والتعاون معهم على البر
والتقوى، فالعلاقات الاجتماعية تساهم إلى حد بعيد في تسديد النظرة،
وتعميق الرؤية لجوانب الحياة، وينظر علماء الاجتماع إلى العلاقات
الاجتماعية كمظهر من مظاهر التكامل الإنساني، وحالة من حالات الرقي،
وظاهرة حياتية لا غنى عنها إطلاقاً.
وبغض النظر عن طرح التعاون على البرّ من قبل الله تعالى وإن كانت
أرقى فإننا إذا أخذنا التعاون كقيمة اجتماعية فإنه من أعلى مستوياتها
وتنعكس فوائدها على كل المجتمع البشري في التعاون الإنساني والنظرة
الإنسانية للغير.
كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (الناس إما أخ لك في الدين أو
نظير لك في الخلق..) والطرح الألوهي في القرآن للتعاون على البر
والتقوى ما هو إلا لإيصال الإنسان إلى مستوى التفكير التعاوني الذي لا
يصله الإنسان بجهده الشخصي إلا بعد طي مراحل عمره هذا إذا وصل إليه.
ثم قيم الأطروحات والأفكار لا يُقاس بأنها من أي أمة أو دين أو مذهب،
بل برؤاها وشموليتها ونزعتها الإنسانية. |