منذ أن استفاق العالم على خلفته الحروب البشرية وبالذات منها الحرب
الدولية الثانية نتيجة لما خلفته من ضحايا تجاوز عددها عشرات الملايين
وما رافق ذلك من خراب شامل أضر بحياة البشرية أتجه الرأي العام العالمي
لإصدار نداءاته في ضرورة وضع حد لعدم تكرار أي حرب دولية وضرورة أن
تتجه البشرية لحل مشاكلها بالطرق السلمية والحوارية ومن ذاك الالتزام
بحقوق الإنسان (مبدأ وتطبيقاً).
وبصدور لائحة حقوق الإنسان سنة 1948م من قبل هيئة الأمم المتحدة
أصبحت الدول الأعضاء المنضوية تحت لواء الهيئة الدولية ملزمة بحماية
حقوق الإنسان كل في حدود مجتمعها بل وأكثر من ذلك فإن الدول الأخرى من
غير الذين يعيشون على أراضيها ألزمت أن توفر الحماية الإنسانية
والسياسية لكل من يدخل أراضيها من الأجانب الذين تقضي أحوالها مد يد
العون والحماية لهم.
لكن ما حدث أن الدول المسماة بـ(الدول الكبرى) المتمثلة في تشكيلة
مجلس الأمن الدولي التي منحت كل منها حق إفشال أي قرار دولي لما سمي
ويسمى بـ(حق النقض) أو (الفيتو) كانت أغلبها غير ملتزمة بإخلاص لتطبيق
ما توجب عليها من التزام أدبي وأخلاقي لحماية حقوق الإنسان والأتعس من
ذلك أن وثيقة (إنهاء الاستعمار) التي وقعتها تلك الدول ضمن عملية طويلة
عريضة اعتقد الناس أنها بداية النهاية للاستعمار الدولي أبقت استعمارها
البغيض للدول المستعمرة على حالها وهذا ما شجع إلى تراجع نسبة تنمية
المشاعر المتعلقة بحقوق الإنسان ليس على المستوى البلدي أو الإقليمي
وإنما على مستوى البشرية جمعاء.
ومن بين براثن اختراق أغلب الدول الكبرى لميثاق حقوق الإنسان تشجع
صغار الجواسيس الذين نصبهم الاستعمار حكاماً جلادين على شعوبهم أن
يقدموا على جرائم مستمرة بعد أن امتازت أنظمة حكمهم بمعاملة الناس
بـ(النار والحديد) حتى ظهرت حكومات والت السياسات الاستعمارية الجديدة
وبطشت بشعوبها، ولكن هذه المرة بنفس المبادئ الإنسانية التي كانت القوى
المحبة للحياة والسلم والديمقراطية تنادي بها فكم من حكومات أشاعت
فضاءات بلدانها بالجرائم السياسية العشوائية التي دفع ثمنها كل
الوطنيين الذين ذهبت فصول حياتهم هدراً بعد أن تمت.. تصفيتهم على يد
جلاوزة الحكومات الفاشية الاستعمارية تارة باسم (الوطنية) وتارة أخرى
باسم (المصلحة العامة) والى آخر ما أجالت به العقول المريضة للاستعمار
وأعوانه المجرمين الذين باعوا مصالح شعوبهم وأوطانهم بثمن بخس، وكان كل
ذلك فاتحة لظهور نوع من الحكم السياسي الاستبدادي على المستوى العالمي
الذي سمي بمرحلة (الإمبريالية) التي من معانيها حكم الاستعمار للبلدان
الأخرى بصورة غير مباشرة.
ولعل (مرحلة الإمبريالية) قد شغلت العالم بمشاكل محلية في البلدان
الخاضعة لها بواسطة حكومات عميلة كانت تدعي الوطنية لأنها تعلم أن
إعلان عمالتها للأجنبي سيعجل بالعقل الثوري الشعبي ضدها إلا أن امتلاك
الدول التابعة للإمبريالية قد خلقت بلبلة سياسية لا أول لها ولا آخر
حتى لتكاد مجتمعات بكاملها تعتقد أن حكامها الجائرين بحقها كانوا
ينطلقون في تعميم جورهم وظلمهم ضد شعوبهم من باب ديكتاتوريتهم وليس
لعمالتهم للأجنبي المستعمر ويبدو أن المستعمرين الأذكياء (ذكاء الذئاب)
قد وظفوا أموالاً طائلة من أجل تعميم مثل هذا الإطلاق كي يقول الناس عن
هذا الحاكم أنه (ديكتاتور) لأن هذه الصفة تبعد على الأقل المستعمر من
شبهة عدائه ضد الشعوب وتلك هي إحدى إشكاليات التقييم السياسي للحكومات
الجائرة وحكامها العملاء الآن الذين يسمون عن طريق الخطأ
بـ(الدكتاتوريين).
إن تنمية مشاعر الناس نحو تأييد الالتزام بحقوق الإنسان والتشجيع
عليها لا تلغي ما لم يتم الاعتراف العملي بذلك من قبل الحكومات الجادة
في شأن هذا الموضوع الحساس إذ لا يكفي أن يقال أن بلداً ما فيه من
جمعيات حقوق الإنسان ما يكفي لمتابعة ودعم التوجهات المعاصرة للحاجات
الإنسانية والقانونية للبشر ما لم تكون كل حكومة في البلد المعني طرفاً
حريصاً على أن يكون هناك معنىً أخلاقياً يترجم مبادئ حقوق الإنسان
وبالذات توفير الحماية لمن يستحق فعلياً ذلك لا أن يترك الإنسان أمام
قدره مع حكومات ظالمة يحفل سجلها الأسود بمخازي الانتهاكات وعار
الجرائم.
ولا يغفل بهذا المجال ضرورة الإشارة إلى أن بعض الانتهازيين قد
استطاعوا أن يغشوا هيئة الأمم المتحدة حين أقاموا صلات مع دوائرها
المختصة العاملة في مجال حقوق الإنسان وحصلوا منها ومازالوا يحصلون
منها على دعم مالي كبير يذهب إلى جيوب أولئك الانتهازيين الذين يسموهم
برؤساء جمعيات حقوق الإنسان. ومثل هذا التجرد القاتل والبعيد عن أي
التزام بالضمير الإنساني ينبغي أن لا يكون. فالانتماء إلى الموقف من
حقوق الإنسان هو مسؤولية قبل أي شيء أخرى وتلك هي القضية. |