عن الباري جل وعلا في كتابه الكريم: (أدفع
بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم..).
إن من الطبائع البشرية أنه يمج الغلظة والخشونة ويستسيغ ويستحسن
الرفق والليونة فتراه يميل إلى اللين من الناس ويفتح أسارير قلبه له بل
يصبح عبداً تابعاً لذي الخلق الحسن، وتراه يبتعد ويتنفر من السيء الخلق
بل يعانده ويتصادم معه ويرد نزقه إلى عنقه، حيث يراه إهانة لا يستهان
بها فيجب ردها.
ومن هنا يستخدم الإسلام في سبيل الحق أرقى تقنية خلقية تستطيع تحويل
العداوة إلى محبة، ليس إلى محبة ودية بل إلى حب شديد يكون صاحبه مستعداً
للتفاني في سبيل إبداء محبته للمحب أو للمحبوب.
لذا قال تعالى (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) فإن الحسنة المأمور
بها الداعي في مقابل الجهال، خير من السيئة التي هي مقتضى تقابل السيئة
بمثلها، كمقدمة لقوله تعالى: أدفع يا رسول الله، أو أيها الذي تواجه
بالسيئة (بالتي هي أحسن).
أي أدفع أذى الكفار وكيدهم بالطريقة التي هي أحسن، بمعنى أدفع
الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة، وقابل الإساءة
بالإحسان، فلا تردّ الإساءة بالإساءة، والقبح بالقبح، لأن هذا أسلوب من
همّه الانتقام، ثم إن هذا الأسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر. ولا
يخفى النتيجة الرابحة (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فهذا
الأسلوب من أبرز أساليب الدعوة للحق وأقومها خصوصاً مع المعاندين
والجهلاء وعليه دراسات علم النفس الحديث. حيث كل من يقوم بالسيئة ينتظر
الرد بالمثل، خاصة الذين هم من هذا النمط، وأحياناً يكون جواب السيئة
الواحدة عدة سيئات.
أما عندما يرى المسيء أن من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب،
وإنما يقابلها بالحسنة عندها سيحدث التغيير في وجوده، وسيؤثر ذلك على
ضميره بشدة فيوقظه، وستحدث ثورة في أعماقه، وسيخجل ويحس بالحقارة وينظر
بعين التقدير والإكبار إلى من أساء إليه، وعندها ستزول الأحقاد
والعداوات من الداخل وتترك مكانها للحب والمودة.
طبعاً لا يخفى أنه هذا الأمر لا يمثل قانوناً دائماً، إنما هو صفة
غالبة، فلا يجوز استغلالها لتمرير أخطاء وقبائح بعض الناس ممن لا
يستحقون الإحسان والرحمة، وهذا الأسلوب من التعامل مع المعارضين
والأعداء ليس بالأمر العادي الهين بل هو عمل شاق وصعب، والوصول إليه
يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق، وإلى توازن نفسي وصبر خارق، بحيث يستطيع
تحمل الأذى ويغضي عنها، فلا بد لسالك هذا الطريق من رسالة حق يريد
إثباتها وإظهارها ولأجلها يتحمل جميع أنواع المصائب والبلايا كالرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)
الذين كم صفحوا وعفوا عن قاتليهم وأعدائهم.
وإليه يشير تكملة الآية (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها
إلا ذو حظ عظيم)
وأيضاً لا يخفى نسبة الربح والفوز العظيم لمن صبر وقاوم واحتسب ومشى
على هذا الأسلوب.
وعن الإمام علي (عليه السلام) (من لانت كلمته وجبت محبته) (الرفق
مفتاح النجاح)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه..) |